الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

خير حلاَّل للعقدة المستعصية

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين11 مارس 2024

يفاجىء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الكثيرين من قادة المعسكر الأطلسي _ البوتيني في أمر الحرب الروسية _ الأوكرانية بزيارة خاطفة إلى السعودية يوم الثلاثاء 27 فبراير/شباط 2024 تزامنت مع دخول تلك الحرب سنتها الثالثة وفيما الإدارة الأميركية وشريكاتها الأوروبيات المبتهجات بإستبدال السويد المستقرة كما لم تستقر دول أوروبية ثوب الحياد بثوب الناتو، تواصل التشاور في ما يعزز صمود أوكرانيا في الحرب مع روسيا وبحيث تسود تحليلاتهم أن ختام السنة الثالثة من هذه الحرب نصر جزئي لهم في أوكرانيا وخيبة تطلعات للرئيس بوتين في أن تكون رئاسته للمرة الثالثة مدموغة بإنتصار ولو دون طموحه الذي من أجْله بدأ الحرب. وتشمل جولات التشاور تفعيل فكرة معاقبة بوتين من خلال إستخدام فوائد الأرصدة الروسية المجمَّدة في المصارف الأوروبية وهي بالمليارات في شراء أسلحة يتم تقديمها إلى أوكرانيا لمساندتها في مواصلة الحرب مع روسيا. كما يشمل التشاور إمكانية إرسال قوات أطلسية إلى أوكرانيا وهو إقتراح من المستغرب صدوره عن الرئيس الفرنسي ماكرون الذي ربما رماه في ساحة التشاور من منطلق الثأر من الرئيس بوتين بإعتبار أنه وراء الخيبة التي منيت بها فرنسا في النيجر ووصلت إلى حد الإهانة وإنهاء الوجود العسكري لفرنسا في هذه الدولة الأفريقية.
حط زيلنسكي الرحال المفاجئ في الرياض وهو بثياب الميدان، ولقي من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز خير ترحيب.
للزيارة توضيح قيل من الرئيس الزائر وهو أنه لمواصلة الحوار من أجْل "قمة السلام". لكن جوهر الزيارة هو الأساس. فالرئيس الأوكراني بات على ما يجوز الإفتراض يرى أنه مجرد بيدق في مبارزة أميركية _ أطلسية مع روسيا وأن سنتين من جولات المبارزة أثبتتا أن الصراع الأطلسي _ الروسي أمر لا نهاية له بعد أن يجدد بوتين الولاية الرئاسية الثالثة، ويتعاقب على الترؤس في الولايات المتحدة ودول حلف الأطلسي رؤساء سيواصلون على الأرجح ما بدأه الرئيس بايدن إذا كُتب له الفوز أو غيره، ومن سيخلف رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك والرئيس الفرنسي الذي سيخلف ايمانويل ماكرون الأكثر حماسة لفكرة إرسال قوات أطلسية إلى أوكرانيا تحترب معها القوات الروسية.
وحيث أن الشعب الأوكراني قاسى من سنتيْ الحرب الكثير من الدمار والدماء فضلاً عن خسائر الثروات، فإن الرئيس الأوكراني الذي بذل من الجهود ما يتجاوز القدرة على إستمرار الرهان وعلى نحو ما ترسمه خرائط التدخل الأميركي _ الأطلسي، بدأ يرى أن خير وسيط لتحقيق نهاية كريمة متدرجة للحرب هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. بل من حيث الحضور المتوازن للنهج السعودي في التعامل مع الأزمات الإقليمية أو التي لدول الإقليم حيز فيها، يمكن القول توصيفاً إن دور التوفيق من أجل التوافق بل وحتى الوفاق بين الأطراف المتنازعة وأحياناً إلى درجة الإحتراب، يتطلب الوسيط المتجرد من هوى الإصطفاف. وهنا يبدو الأمير محمد بن سلمان نموذجاً للقيام بهذا الدور. فهو إلى جانب تصفير حالات من التوتر عالقة على المستوى العربي والإقليم عموماً بدءاً بما كانت عليه أجواء من التأزم إيرانياً ويمنياً وخليجياً وصولاً إلى سعي أخوي دبلوماسي عزز الاستقرار في العلاقة مع العراق وإستهدف إستعادة سوريا إلى أن تستكمل التغريد في الفضاء العربي كان سعيه مشكوراً. وحتى في ما يتعلق بالوضع الدائم التأزم في لبنان نرى الدبلوماسية السعودية ومن خلال مضافات سفير المملكة وليد البخاري تمارس السعي بما يبقي ذلك الوضع في منأى عن الإنهيار.
وما هو الأكثر أهمية من حيث متانة الدور التوفيقي، أنها الحقبة الأولى التي تكون فيها دولة عربية في حال من الاهتمام المتبادل وإلى درجة الحرص الشديد عليها من جانب الأطراف الدولية. وبعد إكمال خطوات على طريق العلاقة الثابتة وذات البعد الإستراتيجي بتلك التي خطاها النهج السعودي مع الصين وروسيا فإن علاقة على درجة من الفرادة باتت تربط المملكة بمجموعة الكبار وإلى حد بدت فيه وكما لو أن الدول الخمس الكبرى في إنتظار أن يكتمل العقد بمباركة أن يمثل العالم الثالث والأمتين العربية والإسلامية في مجلس أصحاب "الفيتو" الخمس. ومن الطبيعي في هذه الحال لا يعود "الفيتو" الذي طالما قاسى العالم الثالث والأمتان من سوء إستعماله، على ما هي عليه حاله.
وأهمية فرادة العلاقة التي إكتملت معالمها وفق خطوات متأنية من جانب ولي العهد الأمير محمد أنها في جوهرها مستندة إلى تجربة ورؤى خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز وبحيث أن عبارته الشهيرة خلال لقائه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض يوم الجمعة 4 سبتمبر/أيلول 2015 "علاقة الرياض بالولايات المتحدة مفيدة للعالم" باتت في ضوء شمولية العلاقة وبالذات مع روسيا والصين تنطبق على الجميع وليس فقط على العلاقة مع الولايات المتحدة. وفي هذا ما يُبقي التعامل في منأى عن التوتر.
خلاصة القول في ضوء الزيارة الإضطرارية وليست العادية للرئيس الأوكراني إلى الرياض وفي الإضاءة على إكتمال مقومات الدور التوفيقي الذي يمكن أن تقوم به المملكة العربية السعودية، أنه بات للأزمات الإقليمية والدولية على حد سواء مرجعية مكتملة المقومات تحرص الدول الكبرى عند إشتداد مخاطر إستعمال النووي إلى حلاَّل متجرد لها يراه بمثابة منقذ رادع قادة الدول الخمس الكبرى ومعهم المبتلون بحروب أو الذين يكابدون أزمات وصراعات بالغة الخطورة من نوع الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي الذي يتواصل في قطاع غزة قصفاً وتدميراً وتهجيراً وتجويعاً للشهر الرابع على التوالي والصراع المصري _ الأثيوبي حول "سد النهضة" النائم إلى حين والذي قد ينتهي لا قدَّر الله حرباً. وأما الحرب الروسية _ الأوكرانية فإنها في ضوء العلاقة السعودية وذات البعد الإستراتيجي مع أطراف هذه الحرب وفي ضوء الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني إلى الرياض ليضع الأمر أمام الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز على موعد مع مسعى تكتمل في شخص ولي العهد والعلاقة السعودية الإستراتيجية مع القيادة في روسيا والصين كما مع الإدارة الأميركية والحكومتيْن البريطانية والفرنسية، مقومات القيام به.. وعلى قاعدة أن العقدة المستعصية تحتاج إلى خير حلاَّل. سدد الله الخطى.