الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

جراح معنوية على مستوى القمة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الثلاثاء 5 مارس 2024

عايشنا كصحافيين يتابعون كل في نطاق إهتمامه وخياراته الأحداث على مدى نصف قرن عربي ودولي حافل بالصراعات، وما يتبعها من أنواع التخاطب بين أطراف متربعة على قمة السلطة تعقبها حالات من الإحتراب على نحو ما هو حاصل منذ سنتيْن في روسيا ومنذ سنة في السودان وغالباً ما يسبق الإحتراب ما لخصه الشاعر العربي بعبارة "الحرب أولها كلام". وفي هذه المتابعة سجل رؤساء حالة من الغضب على رئيس أو أكثر لدواعي مختلفة، وأجازوا لوسائل الإعلام من صحف وإذاعات ثم محطات تلفزيونية باتت فضائيات أن يقولوا من الكلام الجارح أحياناً في حق رئيس فاجأهم بخطوة صاعقة أو بخروج عن التفاهمات، إلاّ أنهم حرصوا على أن يبقى العتاب أو الغضب في منأى عن سلاطة اللسان. ثم ها هو الرئيس الأميركي جو بايدن يسجل عشية بدء الحرب الروسية _ الأوكرانية ذات المسحة الأطلسية سنتها الثالثة ومن دون ملامح على قرب نهايتها عبارة توصيفية في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يسبق أن قالها رئيس في حق رئيس خصم. وهذه العبارة التي صدمت سامعيها أو قارئيها هي "لدينا إبن زانية الرجل بوتين وآخرين غيره حيث علينا دائماً أن نخشى من إندلاع نزاع نووي لكن التهديد الوجودي للبشرية هو المتاح...".

ومع أن هذه النبرة ليست جديدة على بايدن الذي سبق أن أطلق على بوتين وصف "سفَّاح" و "مجرم حرب" إلاّ أن التوصيف الجديد يحفر في الوجدان، فضلاً عن أنه مألوف لدى متخاصمين في أوساط الدرجات الإجتماعية الدنيا وفي لحظات من الثمل لا يسيطر بسببها السكارى على الغضب وهم داخل مقاصف وبارات وملاهي ليلية، وفي هذه الأوساط كثيراً ما تحدُث جرائم قتل كأن يردي شخص شخصاً آخر قتيلاً لأنه تفوه بعبارة ترمي أمه بأسوأ تهمة تقال عن إمرأة.

ونلاحظ أن بوتين الذين يترجم عادة من يستفزه إلى بالغ الحدة والمخاطرة، إلتزم الكياسة من دون أن يعني إلتزامه هذا أنه لم يتألم من هذا الجرح المعنوي، تاركاً للناطق بإسم الكرملين الرد وبكلمات واغزة إنما بتأدب قائلاً: "هل إستخدم الرئيس بوتين كلمة واحدة مهينة واحدة لمخاطبتكم. إن إستخدام رئيس الولايات المتحدة لمثل هذه اللغة عن رئيس دولة أُخرى من غير المرجح أن يسيء إلى رئيسنا الرئيس بوتين، لكنه يحط من قدْر أولئك الذين يستخدمون مثل هذه المفردات التي ربما كانت نوعاً من المحاولة للظهور كراعي بقر في هوليوود. لكن بصراحة لا أعتقد أن ذلك ممكناً...".

وهذا الرد المدروس بعناية ومن دون ذِكْر بايدن بالإسم، تجهيلاً ربما وليس إغفالاً، لا يعني أن الكرملين ومن خلال لسان سليط.. لسان ديمتري ميدفيديف الذي قدَّم الترؤس لصديقه بوتين عام 2012 وبقي إلى الآن خير سند لصديقه وأشرس مدافع عن الزعامة البوتينية قال عن الرئيس بايدن إنه "مصاب بالخرف ومستعد لخوض حرب ضد روسيا وإن التهديد الوجودي للعالم يأتي من كهول عديمي الفائدة...".

وعندما نقول إن التلاسن الرئاسي من جانب البعض بقي رغم السلاطة في التعبير لا يصل إلى نقطة المحرمات كوصف الرئيس بايدن للرئيس بوتين بأنه "إبن زانية" فإننا نتذكر ما قاله الرئيس أنور السادات عن الرئيس معمَّر القذَّافي ذات حالة غضب عاصفة بأنه "مجنون ليبيا" وما قاله عن إنتفاضة شعبية في المجتمع المصري بأنها "إنتفاضة حرامية" وعن سجين سياسي مرموق بأنه "قاعد في السجن زي الكلب". لكن رغم أن هذه أوصاف لا تصل إلى المحرَّمات وبالذات ما يتعلق بالأم والتي تجاوزها دون وجه حق أو منطق الرئيس بايدن في حق خصمه اللدود الرئيس بوتين، إلاّ أنها نالت من سمعة قائلها ورصيده من دون أن تحقق ما يتباهى به.

كذلك نتذكر في السياق نفسه ذلك الغضب لدى الرئيس حافظ الأسد من الرئيس السادات لمناسبة زيارة إسرائيل وإلقاء خطاب وكيف أنه رغم غضبه الشديد من الذي فعله كشريك له في الحرب سرعان ما تناسى تلك الشراكة أبقى على لسانه لا يصل عند التعبير عن موقفه من الفعل الساداتي إلى ما لم يعتمده على سبيل المثال الرئيس بايدن من تعبير يتسم بالسلاطة في حق الرئيس بوتين وقوله "إنه إبن زانية".

ولقد عبَّر الرئيس حافظ الأسد عن غضبه من الفعل الساداتي بمطالعة ضمن خطاب مبثوث ألقاه في مثل هذا الشهر قبل 43 سنة (الأحد 18 مارس/آذار 1981) أمست محطة مهمة في تاريخ العلاقات العربية _ العربية ومحاولات التضامن والتحالف، جاء فيها قوله: "زارنا السادات قبل يومين من زيارة الخيانة وإلتقيت معه لمدة سبع ساعات وروى لي خلال اللقاء كيف تكونت لديه فكرة الزيارة وبطبيعة الحال لم يقل شيئاً من الحقيقة لا من بعيد ولا من قريب. روى لي نُتفاً من قضية هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. بل هي الخيال بعينه لدرجة أنه أراد أن يقنعني أن الفكرة بكاملها تولدت لديه وهو في الجو في الطائرة، وربما لسوء حظه إنني كنت فيما مضى طياراً وما زال عندي بعض الذكريات وربما ساعدني هذا في فهْم ما نواه...".

خلاصة القول إن هذا التخاطب الذي يعتمده في لحظة غضب من هم في مستوى القمة ويتحملون مسؤولية البلاد والعباد على حد سواء، يلقي ظلالاً على مهابة كل قائل كلاماً أقرب إلى التجريح منه إلى الموقف. وفي أدبيات وأخلاقيات مرجعيات روحية وفكرية عربية في التاريخ ما يضيء على أهمية تعفف اللسان، مثل قول الرسول (ص) "الجمال في الرجل اللسان" وحكمة للإمام علي "المرء مخبوء تحت لسانه وقوله يدل على عقله". ومثل هذه الحكمة يحتاجها الجلساء في القمة أصحاب القرار وبالذات الذين يقولون في لحظة غضب ما هو مستهجَن قوله وإعتبره الرئيس الأميركي بايدن في حق الرئيس الروسي بوتين أمراً طبيعياً... مع أنه ليس كذلك على الإطلاق.

فؤاد مطر