الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

مَن يدمِّر... يعمِّر

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 20 فبراير 2024

الآن وفيما المجتمع الدولي لا يضع حداً لجنون حرب "إسرائيل نتنياهو" وحليفه الأكثر شغفاً بين الليكوديين في مواصلة القتل والتدمير من بعض جنرالات الجيش المهمومين بالذي وجدوا أنفسهم متورطين بعملية حربية منقوصة المهابة وتفتقد إلى أخلاقيات المحارب وأصول الحروب وقواعدها، فإن الكلام حول تعمير ما دمره الجيش الإسرائيلي بدأ يأخذ مسار الإهتمام الجدي، وذلك على قاعدة "مَن يدمِّر.. يعمِّر".
في قطاع غزة منذ ثلاثة أشهر بدأ الجيش الإسرائيلي وبكل أنواع أسلحته وبالذات السلاح الجوي عمليات يومية من التدمير، لا تستهدف ثكنات عسكرية أو مواقع تتحصن فيها قوات بالمقابل، وإنما الإستهداف أبنية بمَن في داخلها نياماً لا يهم أو يتناولون أكواب الشاي مع أطفالهم وبيوت عبادة بجوار محراب هذا المسجد أو تلك الكنيسة متعبدون، ومستشفيات على أسِرَّتها مرضى ومدارس وأبراج سكنية ومراكز تربوية. لذا يجوز تصنيف مثل هذه الحرب بأنها منقوصة الأصول والشجاعة وأخلاقيات الإحتراب نفَّذها جيش مزود من بعض الدول الكبرى وبسخاء كما نوع الضريبة نحو دولة أُنشئت بفعل وعد منقوص الإجماع الدولي (وعد بلفور. 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917) ما يعني أنه مجرد صفقة ثنائية نصف طبيعتها رسمي كون طرفيْها هما زعيم "الحركة الصهيونية" اللورد أرثر روتشيلد وممثل الحكومة البريطانية أرثر بلفور. والقول إن الوعد مجرد صفقة من جانب بريطانيا المحتلة فلسطين إلى الحركة الصهيونية التي أدت مهمة إنشاء كيان أخذ صفة إحتلالية وما زال، يوجب على دول العالم إتخاذ موقف من هذا الفعل الأشبه بعميلة عقارية حيث أُعطيت الصهيونية خلسة أرض وطن سكانه عرب ليتم بفعل بعض الدول الكبرى جمْع يهود من دول كثيرة إستيطانهم في هذه الأرض ويتم إطلاق تسمية دولة إسرائيل عوض الوطن الفلسطيني الذي تقتضي الأصول على مَن كان يحتله تسليمه إلى أصحاب الحق وليس تنفيذاً لصفقة رمزاها أرثر بريطاني بروتستاني وأرثر صهيوني يهودي. هذا ما حدث في تاريخ الدول التي إحتلت أوطان شعوبها الأصليين ثم عندما إنتهى الاحتلال بالتراضي أو بفعل إنتفاضات وطنية، كما الذي حدث في جنوب أفريقيا، طوى أصحاب الحق صفحة المحتل. وهذا يعني أن الكيان الصهيوني أقيم بموجب صفقة _ هدية مشبوهة أخذت بفعل السكوت الدولي في حينه عليها الصفة القانونية المنقوصة الإجماع بعد العام 1948 حيث وجدت الحركة مقعداً لها بصفة دولة في الأمم المتحدة حاضنة دول العالم.
هذا الفعل الذي تولاه ارثر بريطانيا تبليغاً ﻟ ارثر الصهيوني في الثاني من نوفمبر 1917 روى تربته بمثيل له يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 رئيس الولايات المتحدة جو بايدن الذي كان سخياً بمثل سخاء بريطانيا الزمن البلفوري حيث أنه لمجرد حدوث عملية حماس وما أحدثته على الفور من صدمات صاعقة لدى إسرائيل نتنياهو حكومة وجيشاً حتى طار من واشنطن إلى تل أبيب ليقول للإسرائيليين حكومة وجيشاً ما تمناه إنه وإن كان ليس يهودياً فإنه صهيوني وهو موقف جعل نتنياهو وجنرالات جيشه المكتوين كل بما حدث في اليوم الحمساوي غير المسبوقة جرأة أبطال العملية الخاطفة يتصرفون على أساس أنه ما دام هذا موقف رئيس الدولة المرجعية لهم فليكن الرد على الفعل الحمساوي حرباً تبدأ ومن دون الإنشغال بنهايتها، ثم يزداد هذا الهوس عند نتنياهو الذي قوضت عملية "حماس" أحلامه وتسببت في جرح غائر في نفسيته، فبات يرى بعدما تقاطر كبار القوم من البريطاني إلى الألماني إلى الفرنسي.. إلى آخرين أنه ما دام مفوضاً وإن من خلال تصريحات حافلة بالتكاذب من جانب هؤلاء فليحوِّل الثأر من الفعل الحمساوي الجريء إلى حرب لا تنتهي ولا إلتزام فيها بما هو أخلاقي وإنساني. ولقد حقق مبتغاه. ألوف من البنيان تحولت إلى ركام. وعشرات الألوف من السكان رجالاً ونساءاً وأطفالاً قضوا تحت أنقاض العمارات التي جرى تدميرها. والذين لم يصابوا أو يختنقوا أو تفيض أرواحهم وبالذات من الأطفال والمسنين والرضع باتوا بمثل وجبة يومية لجنون الإبادة التي يتابعها المجتمع الدولي صوتاً وصورة، فلا تتحرك المروءة لدى البعض ولا يخشى البعض من غضب الله عليه يوم الحساب.
وعندما وصلت نزوة التهجير وحاجة مئات الألوف إلى الطعام والماء والدواء إلى مرحلة متقدمة من الإبادة، فإن الأذرع الدولية من كبير القوم الأميركي إلى البريطاني والفرنسي والألماني أطلقوا في ما يخص الغذاء والدواء من المواقف الكثيرة النعومة التي لا تخدش التوحش الصهيوني الذي لا يحسب الحساب إلى ما ستكون عليه حال إسرائيل من جانب جمهور فلسطين المسترخية في رام الله في حال وجد نفسه ينتفض هو الآخر كما ما ستكون عليه بعد عقديْن من الزمن يكون الجيل الناجي من الإبادة مشحوناً بغضب من سيأثر، وعلى نحو الجيل اليهودي الذي نجا من المحرقة النازية فوظف محنته مكاسب مالية وسياسية من المانيا ما بعد زوال هتلريته.
لكل حرب أو ظالم أو مستبد نهاية وفي التاريخ ماضياً وحاضراً ما يؤكد هذه الفرضية. المهم الآن أين سيكون مأوى مئات الألوف ومن سيؤمِّن الدواء والعلاج والغذاء بعد أن يقرر العقل الصهيوني الذي أصابته في العمق جرثومة الإبادة وضع نهاية للحرب ورمزها نتنياهو ومَن معه، مقترفاً بما فعل وزراً ولا كل الذنوب.
إن منطق الأمور يرى أن مَن دمر الحجر وأزهق أرواح عشرات الألوف وشتت مئات الألوف بفعل مباشر ثم بدعم لفعله المتوحش هذا، هو مَن عليه واجب التعمير بدءاً بالفاعل يليه المساند والمؤيد. وما نقصده بكلامنا هنا إن التعمير من الطبيعي أن تتشارك في جمع أرقام مبالغه أميركا الحاضر وتلك الجديدة بعد بضعة أسابيع، وبريطانيا التي كما قدمت الوعد هدية ماضياً تشارك في التعمير حاضراً. ولمجرد أن يتقدم التعقل لدى إسرائيل نتنياهو على الجنون والفعل المتوحش. وما يقال عن وجوب مشاركة المانيا في التعمير يقال عن فرنسا. دول أربع كبرى باركت من خلال مواقفها المتعاطفة التدمير والإبادة مسيئة بفعلها هذا إلى أجيال من الأميركان والبريطانيين والفرنسيين والألمان عندما ستتأمل هذه الأجيال بالمواقف غير الإنسانية وغير الكريمة لمصلحة دولة مارست ولا تزال إنما إلى حين التوحش في أعلى درجاته ضاربة من خلال الإبادة بتنوع معالمها حقوق الإنسان.
وتبقى الجمهورية الإسلامية في إيران التي لم تمارس فعل التدمير والإبادة على نحو ما حدث، إلاَّ أن ما جرى ربما كان لن يحدث لولا واقعة يوم السابع من أكتوبر 2023 ومن جانب الذراع الفلسطينية الأكثر فعالية "حركة حماس" ونظيرها "الجهاد الإسلامي".
ومن هنا فإن دور إيران في التعمير واجب وإن هي لم تدمِّر. وأما التعمير من جانب الدول العربية المقتدرة وتحديداً المملكة العربية السعودية ودول الخليج فإنه مرجأ إلى حين قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
فؤاد مطر