الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الترميم الممكن والعائد المأمول

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الثلاثاء6 فبراير 2024

لم يحدث في تاريخ العلاقات الثنائية بين دولة كبرى ودولة وازنة في العالم الثالث ما حدث من خيارات طارئة لم يسبق حدوثها بالتطورات والتداعيات على النحو الذي إتصفت به العلاقة بين روسيا بطبعتها السوفياتية التي تقودها صيغة ثلاثية الأضلع ومصر الخارجة من علاقة شديدة الوطأة في ظل حالة إستعمارية بريطانية أدت أساليب التعامل من جانب الإنكليز إلى أن مجموعة من الضباط قاموا بإنقلاب نأى عن أي ضرورات دموية وغير إنسانية على نحو ما حدث في العراق عى سبيل المثال لا الحصر. وعندما حاول العم سام الأميركي إقناع المجموعة الإنقلابية أن يكون البديل للوجود البريطاني، إنما بصيغة الإحتواء، أو فلنقل صيغة الحليف بمعنى أن يكون النظام الجديد في مصر بمثل النظام الشاهاني في إيران الخمسينات لقطع الطريق على الإتحاد السوفياتي المتطلع إلى أن تكون له حصة من كعكعة المنطقة العربية.. إن العم السام وفي شخص الدبلوماسي العريق جون فوستر دالاس وزير الخارجية زمنذاك خرج محبطاً نتيجة عدم التجاوب مع مبتغاه لتبدأ على خلفية هذا الإحباط وبنسبة بسيطة من الشروط التعجيزية حقبة دخول الإتحاد السوفياتي المزوِّد النظام الثوري الجديد بقيادة جمال عبدالناصر صفقات متتالية من السلاح وبتسهيلات يستهدف الكرملين منها تعميم ورقة إكتساب المزيد من التمدد في الدول العربية ومعظم الدول في العالم الثالث حيث أهل الحكم لا مال عندهم بما يكفي لتعزيز الشأن وهذا يحققه إمتلاك أنواع من السلاح.

تلك خطوة كانت نوعية وقطفت مصر الناصرية ما عزز شأنها معنوياً إلى أن حدثت حرب 5 يونيو 1967 وشكلت الهزيمة وقفة من التأمل في الموقف السوفياتي الذي كان قادراً على تزويد مصر بما هو متقدم من السلاح بحيث إذا كان لن يحقق نصراً فإنه قادر ألاَّ يجعل الهزيمة تصل إلى ما وصلت إليه. وعلى خلفية الواقع الصادم عاود العم سام إقتحام مصر وقد باتت في عهدة الرئيس أنور السادات الذي تصرَّف أزاء السوفيات ما كان من المستبعد إقدام عبدالناصر عليه. ونشير هنا إلى أن القادة السوفيات وبعد فترة وجيزة من مواراة عبدالناصر الثرى وضعوا العهد الساداتي تحت مجهرهم وبدأ هؤلاء وبالذات الرجل الأول في الترويكا ليونيد بريجنيف يخص المجموعة الناصرية وتحديداً علي صبري الأكثر معرفة به والذي كثيراً ما إختبروا مدى إقتناعه بأن تتطور العلاقة المصرية _ السوفياتية في حقبة ما بعد عبدالناصر وخرجوا من إختبارهم بأنه رجل المرحلة الصعبة القادر على كبح السادات وسجلوا في هذا الشأن ما يعكس نياتهم الحقيقية حيث أن القادة الثلاثة (بريجنيف. كوسيغين. بودغورني) إستقبلوا علي صبري الذي زار موسكو (الأحد 20 ديسمبر/كانون الأول 1970) موفداً من السادات في مطار موسكو وليس مسؤولاً يتساوى في المنصب بالمسؤول المصري الزائر. وهذه الواقعة غير المسبوقة جعلت السادات يعد العدة لرد الكيل أكيال متلاحقة للسوفيات وكلها تلقى الإرتياح من الجانب الأميركي. لم يحصل ما إفترض السادات حصوله وهو أن يأتي بريجنيف إلى مصر ويشارك السادات في إحتفالية إتمام العمل في السد العالي وعلى نحو حضور خروتشيف (أي الأول في الترويكا) زمنذاك ومشاركة عبدالناصر وضْع حجر الأساس لبدء العمل في السد، وبدلاً من ذلك حضر نيكولاي بودغورني وألقى كلمة عادية جداً وليست كما يتوقع السادات سماعها وهي "جئتُ أشارك في الإحتفال بإتمام أعظم بناء وأجتمع بالسادات لدعم صداقتنا وتعاوننا في القضايا الحيوية...". ومرة أُخرى يشعر الرئيس السادات بأن برودة التعامل معه من برودة الطقس الروسي المثلج، ويقرر الشروع في تنفيذ خطة مختمرة في تفكيره بدأت بالموافقة على معاهدة بين الدولتيْن رآها السادات غير موجبة ما دامت لم تحدُث في زمن عبدالناصر، وأن الغرض منها هو تكبيل السلوك الساداتي، لكنه وضع توقيعه عليها كطرف ثان يلي توقيع الطرف الأول بودغورني وبتاريخ 27 مايو/أيار 1971 الموافق الثالث من ربيع الثاني 1393 هجرية. وبموجب النص الذي أراده الكرملين يمتد مفعول المعاهدة خمس عشرة سنة، وهي في نظر الكرملين كافية للطمأنينة والبقاء وإفتراض أن العهد الساداتي لن يدوم أكثر من هذه المدة وفي هذه الأثناء يكون الكرملين وضع خطة بقاء مصر في عهدته وعلى نحو ما كانت عليه أيام عبدالناصر.

لم يخطر في بال الكرملين أن الرئيس السادات الذي لم يتحمل ما رآه من سلوك الكرملين غير الودي تجاهه، وأيضاً طبيعة تعامل قادة الكرملين معه عندما قام بزيارة إلى موسكو بقي عدم الإعلان عنها رسمياً من الزائر الرئيس المصري والقيادة السوفياتية (بريجنيف. كوسيغين. بودغورني). ونكرر الإفتراض بأن الساعات التسع من المحادثات التي عقدها الرئيس السادات مع القيادة السوفياتية على مدى يومين لم يحقق منها ما يتطلع إليه وهو أن يكون التعامل بين الدولتيْن على نحو ما كانت عليه في سنوات عبدالناصر وكان علاجه في مصح "تسخالطوبو" على مدى شهر نموذجاً على صفاء التعامل عكس ما هو عليه من غيوم ثقيلة مع السادات. ومنذ المرحلة الأولى لإنتقال السُلطة بقيت العلاقة المصرية _ السوفياتية على مدى خمسة عشر عاماً من الثقة والحرص السوفياتي على أن تبقى العلاقة صامدة عند هبوب العواصف الأميركية _ البريطانية. ولقد صمدت لكن التهاوي شق الطريق ونرى الرئيس السادات يهيل من القرارات المباغتة ما جعل العلاقات المصرية _السوفياتية ما أوجب إنقاذاً للوضع لم تحقق سنوات الرئيس حسني مبارك ما يكفي للإنقاذ. ثم يبدأ عهد مصري جديد يباشر ووفق روحية أسلوب عبدالناصر ترميم التصدعات السياسية _العسكرية مسجلاً الرئيس عبدالفتاح السيسي أسلوباً وقراءة موضوعية لما هي الأحوال في المنطقة ومكانة مصر في الإقليم. وخلاصة هذه القراءة أن الترميم ممكن للعلاقة المتصدعة وأن عوائد هذا الترميم مأمولة إلى حد أن ما بدأ صفقة سلاح 1955 مع مصر عبدالناصر من المتوقع أن يثمر نووياً مع مصر السيسي خطوة خطوة.

وللإضاءة على وصفة الترميم بقية كلام.

فؤاد مطر

.