الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تمدْيَن الجنرالان.. فماذا بعد للسودان؟

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"

بتاريخ الثلاثاء 9 يناير 2024

بدأ قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) وهو يتناول يوم الخميس 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 الطعام مع رئيس وزراء أثيوبيا ورجلها القوي أبي أحمد الذي إستضاف الجنرال السوداني أعلى درجات الإستضافة، أن الإثنين على درجة من الإنسجام والرؤى بالنسبة إلى الآتي لمستقبل السودان، وأنهما في هذه المأدبة الحميمية أوحيا بأنهما يحتفلان بمناسبة إنتهاء العام 2023 بعد ثلاثة أيام.

وصل حميدتي مدعواً ومرحَباً به خير ترحيب وكان كما في بدء جولته الأفريقية ظهر ببدلة مدنية أنيقة عند إجتماعه في اليوم السابق (الأربعاء 27 ديسمبر) بالرئيس الأوغندي يوري موسيفيني إرتأى أن يشارك بعد أن يكون حقق فوزاً على حليف الأمس وشريكه حميدتي الذي كان يأمل أن يكون قائد الجيش النظامي الجنرال البرهان ثالثهما لولا أن حميدتي يمم وجهه الشطر الأفريقي لأن إنشغال بال رموز السلطة وبالذات الأقربون منهم إلى السودان بحكم الجيرة والبعض بحكم الشقيق المسلم لشقيقه في الملمات يعنيهم إستقرار الحال في السودان. ولقد ترك "سودانه" المتقطع الأوصال من العاصمة المثلثة الخرطوم إلى سائر الولايات وبالذات دارفور التي تكتسب بفعل صولات أشاوس الدعم السريع وجولاتهم صفة "الدولة الحميدتية"، في عهدة نائبه الذي هو شقيقه المؤتمن على الحميدتية بشطريْها العسكري بما باتت عليه "قوات الدعم السريع" والمناجمية بما في جوف بعض المناطق من معادن قد تكون بعد إستكمال إخراجها بأهمية التراب الذي ينتهي سبائك من الذهب.
قبل "جنرال الدعم السريع" كان الفريق أول عبدالفتاح البرهان في حرب الجنراليْن أطل وبكامل أناقة البدلة المدنية على الجزائر مشاركة في القمة العربية التي لم يأخذ بيانها الختامي من الاهتمام بخطورة ما هي عليها أحوال السودان التي باتت يرثى لها من دون أن تحقق سطوة الجيشيْن "الجيش البرهاني" و"الجيش الحميدتي" على ظواهر لم يعتد عليها السودان من قبل كنهب المتاجر ومصادرة المحاصيل من الحقول والبساتين وخطف وسرقة الماشية على أنواعها. هذا عدا تدمير بيوت وناقلات وسيارات وجسور. فضلاً عن أن المراكز الصحية والمستشفيات تضررت. وما سلم منها باتت تستقبل حالات من المصابين بفيروسات غير مألوفة. وعندما بدأت "إسرائيل نتنياهو" حرب الإبادة على غزة نتيجة القصف التدميري للمنازل والمستشفيات والمساحد والمدارس عادت الذاكرة بالحادبين على السودان إلى ما تسببت به الجولات الحربية لكل من جيش الجنرال البرهاني وقوات الجنرال الحميدتي ضد بعضهما وتشمل صولاتهما الأحياء والأسواق والمطارات ومحطات الوقود والمصافي ومستودعات السلاح والحبوب. كما إستعادت الذاكرة عند العرض اليومي على مدى أسابيع منظر الجثث البشرية المتعفنة الملقاة في الشوارع تنتظر من يتعرف عليها من أجْل دفنها، إلى منظر لا يليق بكرامة السوداني وعنفوانه وهو منظر جثث لأفراد من كلا الجيشيْن المتعاركيْن قصفاً بالمدافع والرشاشات ملقاة في شوارع. وللمرء أن يتصور حال الجثة المتعفنة فيما درجة حرارة الجو تتجاوز الأربعين. ولكم كان مدعاة حزن في نفوس أمثالنا الذين في تاريخهم خير ود تعاطف مع السودان وبالذات في أزمان ضرَّائه أن تكون هنالك جثث تعفنت لأن تبادل القصف من "جيشيْ" الدولة الذي تسبب بإزهاق أرواح أصحابها أدى إلى أن هؤلاء القتلى عوملوا وكأنهم ليسوا رفاق سلاح ومن الواجب وقف الإشتباك والمسارعة إلى دفنهم وقراءة الفاتحة على أرواحهم..
حتى قبل إقتراب العراك الجنرالي التدميري من السنة الأولى وتبذير وتبذي سلاح الدولة الذي هو أمانة من الشعب لدى المؤسسة العسكرية، في قتال ضد الوطن وليس من أجله، إستمر التحدي على حاله وإن كانت تصدر عن الجنراليْن ما يفيد أنهما قد يلتقيان. هل من أجل أن يخلدا إلى قيلولة متعقلة يتم بموجبها التأمل بما إقترفه كل منهما وتبادل الملامة على عدم الأخذ بمساع عربية من شأن التجاوب معهما إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إذا جاز القول ومن باب الإفتراض أن التفريط بالمسعى التوافقي يعود إلى أن كلا الجنرالين لا مكان لهما في واقع السودان ما بعد الحرب. شأن كل منهما في ذلك شأن ما هي عليه مجموعة الحرب من جانب "إسرائيل نتنياهو" على غزة وذلك على أساس أن بقاء نتنياهو مترئساً الحكومة رهن بإستمرار الفعل المتوحش الذي يواصل إقترافه في غزة. كما أن بقاء الجنراليْن كل في ظل دولته الحربية رهن بإستمرار حربهما التي كانت عملياً ضد السودان الدولة وضد الشعب الذي ترك الجنراليْن يمارسان ما ليس من حقهما ممارسته دستورياً وأخلاقياً ومن أجل ذلك إنتهى أمر السودان ساحات متنقلة لهدر إمكانات الوطن إلى جانب إزهاق أرواح حرَّم الله قتْلها.
لقد بذلت أطراف كثيرة من المسعى الطيب ما كان يمكن إختصار مساحة العبث الجنرالي بالسودان الوطن والشعب فضلاً عن أن مهابة العسكرية السودانية غدت موضع إستصغار لشأنها وهي التي كانت نجمة بين النجمات العربية والأفريقية.
ما يمكن قوله من باب قراءة المشهد أن الجنراليْن اللذين خاضا حرباً لا موجب لها سيما وأنهما كانا رمز تحالف من شأن إبقائه في منأى عن هاجس الترؤس، أو فلنقل هاجس القائد الوحيد، إرتدى كل منهما "البدلة المدنية للرئاسة" عوض البدلة الجنرالية المرفقة بالعصا والموسمة بنياشين وميداليات، بغرض تعويد المواطن السوداني على ما يريد كل منهما حدوثه وهو أن يكون مقره الذي ما زال في علم الغيب في القصر الجمهوري المطل على النيل الغاضب مما يفعله جنرالا الحرب العبثية بالوطن الذي يحتاج إلى عقلاء يديرون سياسته ويتواضعون ويخلُد جيشهم بعساكره وجنرالاته إلى واجب حماية الوطن وليس الإقتتال عليه بهدف إلتهام قمة السلطة.
وسنبقى ونحن نعايش الحالة المأساوية في السودان نذكر بالخير جنرالاً كان غير سائر الجنرالات بدءاً بالجنرال إبراهيم عبود ومجلسه العسكري وراهناً بجنراليْ الحرب على السودان، وهو الجنرال عبدالرحمن سوار الذهب الذي من أجل السودان الوطن والتوافق الوطني والإستقرار المنشود سجل ما كان مأمولاً من الثنائي البرهان _ حميدتي إعتماده أي إعتبار مهمة الثكنات بمن فيها حماية الوطن وليس إعتباره ساحة إقتتالهما. وعندما سلَّم سوار الذهب الزمام غير حالم برئاسة ولا بمنجم ذهب وإعتبر العام الذي أمضاه رئيساً لفترة إنتقالية أنه مجرد أمانة وكان عند حسن إيفائها وبذلك ذهب أمثولة حتى بعد إيوائه الثرى في رحاب المدينة المنورة رحمة الله عليه وهدى الجنرالات في بلاد الأمتيْن وبالذات جنرالا الزمن السوداني العاثر اللذان لا يستدركان ما هو أعظم للسودان في حال أنهما لا يضعا وبموجب كتاب بتوقيع كل منهما الأمر في عهدة المملكة العربية السعودية ومصر المرجعيتيْن الحريصتيْن على السودان الشعب والكيان. وفي هذه الحال يغسل الجنرالان الأيدي من إثم حربهما، وينطلق السودان من جديد مطمئناً شعبياً وفاعلاً إقليمياً ومستقراً تنموياً.
لعل وعسى تصفو النوايا وبصفائها تطمئن النفوس.. نفوس الشعب السوداني الذي يكفيه، كما ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة، ظلم حرب الجنراليْن على مدى أشهر كأنها عقود، ونفوس الحادبين على السودان كما مبادرتهم في الماضي وبالذات الحادب السعودي والحادب الإماراتي والحادب المصري. ومثل هذا الحدب يتم في حال تم إستبدال جنون الإقتتال بتعقل إستنهاض الوطن خشية أن يصبح الأمر الواقع للسودان هو الغرق في الضياع.
فؤاد مطر