الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

كيسينجر الخادع.. والعربي المخدوع

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الاوسط"

بتاريخ الثلاثاء 19 ديسمبر 2023

تستعيد ذاكرة المتابع مثل حالي للتطورات العربية من أحداث ومؤتمرات قبل وما بعد الحربيْن مع إسرائيل (الأولى 5 يونيو/حزيران 1967) والثانية (6 أكتوبر/تشرين الأول 1973) وها هو الجنوح التدميري من جانب "إسرائيل نتنياهو" يفرش أبسطته المغطاة بدماء الناس في غزة وبقايا أشلاء تحت أتربة منازلهم وحطام مستشفياتهم ومساجدهم وكنائسهم، أمام الحرب العربية _ الإسرائيلية الثالثة إضطراراً وليس إختياراً.. تستعيد الذاكرة كلاماً حول ظاهرة الدكتور هنري كيسينجر وسعيه على مدى سنوات تجوال في المنطقة بدا فيه وكما لو أنه يريد إقتباس شخصية وأسلوب "لورنس اوف ارابيا" بنكهة أميركية _ يهودية إذا لم نقل صهيونية. وذاك الكلام قاله لي محمود رياض وأحمد الشقيري في لقاءات في القاهرة ولندن بعدما بات الإثنان (رحمة الله عليهما) خارج العمل الرسمي: محمود رياض لم يعد الأمين العام للجامعة العربية وأحمد الشقيري أورث الزعامة الفلسطينية بعد الأولى في رحاب الحاج أمين الحسيني، إلى ياسر عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كان الكلام الذي قاله محمود رياض وذاك الذي قاله الشقيري دونْته على أوراق تُنشر في الوقت المناسب وعملاً بقاعدة المجالس بالأمانات حول الدور الذي قام به كيسينجر على مدى بضع سنوات من الصراع العربي _ الإسرائيلي وبالذات في تصميمه على أن تكون إسرائيل هي الآمنة والمستقرة ويكون الجانب العربي عموماً وبالذات مصر وسوريا والجهاد السياسي الفلسطيني ودول الخليج التي تدعم الأحوال الفلسطينية أطرافاً غير مستقرة وفي دائرة القبول بما تعرضه الدبلوماسية الأميركية كمطالب أو حلول ومن خلال كيسينجر بدءاً بسنوات إدارة الرئيس نيكسون ثم إستمراراً بعد إسقاط الرئيس بفعل "فضيحة ووترغيت" وتولّي جيرالد فورد الرئاسة التي أخذ فيها كيسينجر مداه الأبعد لمصلحة إسرائيل وذلك لأن الرئيس فورد غير ملم بأوضاع منطقة الشرق الأوسط على النحو الكافي وهذا جعل كيسينجر يحقق في الصف العربي إرتباكات من كل نوع.
وحيث إن كيسينجر بات بعدما أنهى المئوية الأولى من العمر ونال يوماً من المئوية الثانية (توفي يوم الثلاثاء 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 ) في ذمة الله، وكان سبقه أحمد الشقيري (توفي يوم 25 فبراير 1980) ثم محمود رياض (25 يناير 1992) فإن كلاماً حوله سبق أن قاله لي الإثنان يصبح مجازاً التذكير به.
من جملة ما قاله محمود رياض في لقاء في مكتبي في لندن حيث إحتفيت مع زملاء بلفتته كما بإفاضته في الحديث عن سنوات صعبة من تجربته وزيراً للخارجية ثم أميناً عاماً للجامعة العربية "إن سياسة كيسينجر مع الرئيس السادات وكذلك مع الرئيس حافظ الأسد كانت دائماً خداعية وكان يردد من العبارات التي يطيب للقائد العربي سماعها بأمل تنفيذها لكن ذلك لا يحدُث مثل إن الإدارة الأميركية حريصة على تحقيق الحل الشامل، ثم يتبين أنه ضمناً ينسق في إتصالاته مع إسرائيل على الحلول المتفردة...".
يضيف محمود رياض "إن كيسينجر إنفرد بميدان العمل السياسي في المنطقة العربية نتيجة إرتباك نوعي في أسلوب تعامل الإتحاد السوفياتي مع مصر حرباً ثم سلماً...".
يضيف أيضاً إن تركيز كيسينجر كان بالنسبة إلى مؤتمر جنيف هو تسميته "مؤتمر السلام" ولقد روجت الوسائل الإعلامية الأميركية إلى ذلك بغرض أن يقال عنها ومن خلال كيسينجر أنها صنعت السلام في الشرق الأوسط وبذلك تعطي إستنتاجات تقلل من شأن النصر الذي حققه الجيش المصري في حرب أكتوبر وبالذات قدراته في العبور الذي أزال من الأذهان مسألة إستحالة حدوثه".
يضيف محمود رياض أيضاً أن ﻟ كيسينجر الدبلوماسي الدور اللافت ومن منطلق تعاطفه كيهودي مع أبناء ملته في إسرائيل الذين يحاربون العرب، في تدعيم الجيش الإسرائيلي بعد وقْف حرب أكتوبر 1973 بأنواع من السلاح الأميركي المتطور براً وجواً لم تحصل عليها إسرائيل من قبل وذلك من أجْل رفْع معنويات الحُكم الإسرائيلي وجيش إسرائيل.
يضيف محمود رياض إن كيسينجر كان يملك مشاعر غير ودية تجاه دول النفط بالذات في العالم العربي وينطلق في ذلك من بدهية أنه عندما يتم تعطيل ورقة النفط لا تعود هنالك قدرات للعرب على الحرب وبذلك تستقر إسرائيل. ويستحضر وهو يقول ذلك تصريحاً أدلى به كيسينجر أواخر العام 1974 هدد فيه بما يوحي بإستخدام القوة ضد الدول النفطية (دول الخليج والعراق والجزائر). وتحضر محمود رياض في هذا الشأن إجابة كيسينجر رداً على سؤال وجهه صحافي إليه عما إذا كان الإستيلاء على الثروة الوطنية لشعب عملاً جائزاً أو إنه ليس أخلاقياً حيث رد بما معناه "إذا راجعْنا تاريخ البشرية سنجد أن الحروب كانت تقع منذ القدم بشأن الموارد الطبيعية...".
يطول الكلام حول إنطباعات محمود رياض عن كيسينجر ومكائده الديبلوماسية التي كادت تودي إلى ما هو أكثر بعثرة للموقف العربي الموحد. وفي هذا المنحى كان الذي قاله لي أحمد الشقيري في لقائيْن معه وكان بات يتفيأ في ظلال القضية قابعاً في شقته الكائنة في "عمارة ليبون" المطلة على أحد فروع نيل القاهرة والمسكونة من بعض وجهاء السياسة والسينما والصحافة.
ففي قراءة لظاهرة كيسينجر قال الشقيري عنه إنه "الرئيس المتجول للولايات المتحدة" وأنه يتصرف في تجواله على أهل القرار العربي "وكما لو أنه موسى الجديد وريثاً لموسى القديم". وفي معرض حديثنا عن الفرق في السعي الدبلوماسي الأممي الأميركي _ الأوروبي لإنهاء الإحتلالات الإسرائيلية رأى "إن مسعى يارينغ أخفق لأن الرجل مسيحي ومستقيم وترنو مشاعره نحو القدس وبيت لحم فيما حقق كيسينجر لدى بعض القادة العرب المبتلاة أوطانهم بإحتلالات إسرائيلية نجاحاً نوعياً لأنه يهودي شاطر...".
كما مع محمود رياض فإن الكلام مع الشقيري يطول هو الآخر. وحيث أن متعة الإبادة الإسرائيلية تتكرر بين حين وآخر، وتلقى من غض النظر الأميركي والدولي عموماً وإلى درجة الموافقة ضمناً وتكثيف المساعدة لتحقيق المزيد ما يشجع نتنياهو وجنرالاته على التفنن في وسائل الإبادة، فإن نعيم الإستشهاد الفلسطيني سيبقى سطوره مضيئة في كتاب الصراع الذي لن ينتهي بغير التكفير الدولي عن الهوى الإسرائيلي وإعتماد المبدئية والصدق في تحويل صيغة الدولتيْن وفق مبادرة السلام العربية إلى أمر واقع. وبذلك تصبح مقولة وداعاً للسلاح وأهلاً بالسلام حقيقة وليست من الأحلام التي حجبتها الكوابيس منذ الأخذ بوعد بلفور الذي قال الشقيري "إنه صيغ في البيت الأبيض وأما اللورد بلفور فإنه وضع توقيعه عليه". ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
فؤاد مطر