الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

مواقف ووقفات... لعلها تهدىء الروْع

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الجمعة 27/10/2023
من قبْل أن يسجل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش موقفه المزدوج إزاء عدوان "إسرائيل نتنياهو" على غزة، كانت هنالك وقفات عربية حاسمة وعازمة على مستوى أهل القمة مثل قول وليّ العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان لرئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك الذي جاء إلى الرياض (يوم الخميس 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023) وفيما عمليات التدمير الممنهج والمتقطع لمناطق في قطاع غزة لا تتوقف "إن المملكة العربية السعودية تعُد إستهداف المدنيين في غزة جريمة شنيعة وإعتداءاً وحشياً وهنالك ضرورة لتوفير الحماية لهم وإستعادة وتهيئة الظروف لعودة الاستقرار وإستعادة مسار السلام بما يكفل حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة". ثم أعادت المملكة التذكير بأمل أن تنفع الذكرى، من خلال بيان عربي أكثر رحابة تعتبر المملكة وسبع دول عربية معها في مضمونه عملية التهجير من جانب إسرائيل للفلسطينيين بمثابة "جريمة حرب" مع المطالبة بوقف فوري ومستدام لإطلاق النار والتأكيد على "أن حق الدفاع عن النفس لا يبرر إنتهاك القانون وإغفال حقوق الفلسطينيين".
وأتبع ولي العهد أمام أعلى سُلطة قرار بريطانية الوقفة بمثيلة لها مرفقة بتأكيدات وتنبيهات (يوم الأحد 22 أكتوبر) أمام رموز يمثلون صياغة القرار السياسي والعسكري وطريقة تنفيذه في الولايات المتحدة (وفد ديمقراطي _ جمهوري مشترك). وعند التأمل في نوعية المسؤولين من الجانبيْن السعودي والأميركي الذين حضروا الاجتماع يخرج المتأمل والقارىء بين السطور بإستنتاج أن الحد الأدنى المقبول عربياً لحل ما بدأ يوم 7 أكتوبر وقد يؤسس في عدم التبصر بكنه الموقف إلى ما لا يعود علاجه متيسراً هو ما أكده ولي العهد من خلال قوله للوفد الذي أوكل إليه الرئيس بايدن، بعدما وظفت إسرائيل زيارته التفقدية لها لمصلحة التصرف الهمجي البالغ الضراوة ضد الغزاويين، أمر ترطيب الأجواء بما يبقي التقييم في دائرة الموضوعية "هنالك ضرورة لبذل جميع الجهود (جهود المجتمع بجناحيْه الدولي والعربي) الممكنة لخفض وتيرة التصعيد وضمان عدم إتساع رقعة العنف لتلافي تداعياته الخطيرة على الأمن والسلام في المنطقة والعالم، وضرورة تهيئة الظروف لعودة الاستقرار وإستعادة مسار السلام بما يكفل حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة...".
وأما الموقف المزدوج للأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش فتمثَّل في قيامه بالتوجه إلى معبر "رفح" وإلقائه محاطاً بموظفين يؤدون الواجب الإنساني إغاثة وطبابة من الكلام الموضوعي الذي يوخز الضمير الدولي وبالذات بعض أهل القرار الأميركي والأوروبي الذين أفاضوا في الإصطفاف، البعض إلى يمين نتنياهو والبعض إلى يساره، وأما الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته وبعض الذين لهم لمساتهم في صناعة القرار الأميركي فهؤلاء جميعاً كانوا مثل الطيور يرفرفون في الفضاء الإسرائيلي الممعن حكومة وجيشاً تدميراً في مناطق من غزة غير عابئين بأطفال ونساء وكبار سن في البيوت التي إنتهت ركاماً. وبعد وقفة المعبر الذي يريده الجيش الإسرائيلي بوابة تهجير أهل القطاع ورميهم في الرحاب المصرية... هذا إذا كُتب للحرب المرجأة فرصة إتمام العملية، كانت للأمين العام الوقفة المنبرية حيث خاطب جلسة مجلس الأمن المنعقدة (يوم الثلاثاء 24 أكتوبر) بما يختزنه ضميره وفي ضوء ما سمعه وهو يزور معبر "رفح" قائلاً "إن الهجوم الذي شنته حركة "حماس" على مستوطنات وبلدات غلاف غزة في السابع من أكتوبر 2023 لم يأت من فراغ. هنالك إنتهاكات واضحة للقانون الإنساني الدولي إرتُكبت في غزة وثمة ضرورة لإيصال المساعدات إلى القطاع دون قيود. ومن أجْل التخفيف من هذه المعاناة الهائلة يجب تسهيل توزيع المساعدات بشكل مضمون وتسهيل الإفراج عن الرهائن. إن المساعدات التي دخلت إلى الآن مجرد قطرة في محيط الحاجات. وإضافة إلى ذلك إن مخزونات الأمم المتحدة من الوقود في غزة ستنفذ خلال أيام. هذا الأمر سيكون كارثة أُخرى...".
بدا الأمين العام في ما قاله وبالذات عبارة "إن الشعب الفلسطيني خضع على مدى 56 عاماً للإحتلال الخانق" كما لو أنه يقول ضمناً للدول التي عارضت مشروع قرار تمزِج كلماته بين الحس الإنساني والنظرة الموضوعية إذا كنتم حتى لا تلتفون حول هذا النص الذي صاغته الحكومة البرازيلية بكثير من التوازن فهذا معناه أنكم تريدون للمأساة الحاصلة أن تنتهي إلى ما هو أكثر من كارثة.. هذا إذا لم تتشابك الرؤى والمصالح الدولية وعندها تبدأ الحروب الأقاليمية الأولى إقليم ضد إقليم وليس الحرب العالمية الثالثة المرجأة بين القوى العظمى. ولقد أُعذر الأمين العام للأمم المتحدة لأنه أنذر بصفة ترؤسه المعنوي لكل رؤساء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عدا فلسطين غير المكتملة العضوية الكاملة في إنتظار سلوك الوعي الدولي الشامل طريق الهداية إلى محطته الأخيرة، كما ترسمها "المبادرة العربية للسلام". ويأتي إلغاء إسرائيل نتنياهو عزم غوتيريش زيارة تل أبيب للإيحاء بأن زيارته لن تكون كما زيارة عميد الزوار الدوليين الرئيس بايدن فالمستشار الألماني ثم رئيس الوزراء البريطاني تلاه الرئيس ماكرون الذي بذل من الجهد العاطفي الإنساني ما يجعل زيارته إلى تل أبيب لا تكتمل إلا بزيارة السُلطة الوطنية الفلسطينية في مقر رئيسها محمود عباس في رام الله. وزيادة في التوضيح إنه لا يريد أن تشكل زيارته إستهانة بالواجب الأممي تؤديه المنظمة الدولية التي إسرائيل من بين أعضائها الذين إعتادوا على التصويت بما ترتاح له ما دام "الفيتو" الأميركي _ الأوروبي بالذات دائم التأهب لإسقاط مشاريع القرارات التي من شأن قبول إسرائيل بها ما يضمن على المدى غير البعيد كثيراً التسليم بوجودها واحدة من جملة كيانات مستقرة في الشرق الأوسط.
وتشاء المحنة الغزاوية أن يرتسم في مشهدها البانورامي الدموي التدميري الحربي، لمسة ضمير لافتة تتمثل بالرهينة الإسرائيلية يوخباد ليفشتس التي أفرج حاجزها الحمساوي عنها وعن سيدة مسنة أُخرى، التي قالت من الكلام ما ينصف الحاجزين لجهة التعامل مقابل كابوس التوصيف الإسرائيلي لها بعد فك الأسر ما جعل أجواء كابوس التوصيف من بعض بني قومها أشد ضراوة من أيام الأسر، عِلماً بأن السيدة قالت إنها عوملت بالكثير من الترفق بها لجهة الغذاء والدواء. وهي في شهادتها هذه بدت مثل تلك الجدة الجزائرية _ الفرنسية التي طلبت عدم توظيف واقعة الإغتيال البشع من جانب شرطي فرنسي لحفيدها قبل بضعة أسابيع في تأجيج حالة الغضب الفرنسي ضد الحكومة من رئيسها إلى سائر الإدارات. وبتصريحها ذاك ساهمت في وضع حد لموجة الفوضى التي إنتشرت في مناطق من "جمهورية الحرية والمساواة والأخوة" وكان يمكن أن تجعل باريس وبعض المدن الفرنسية شبيهة ببعض ما تفعله إسرائيل نتنياهو في غزة. وفي الحالتيْن حالة تعامُل الآسر الحمساوي مع السيدة الإسرائيلية وحالة الجدة الجزائرية التي دخلت كمؤمنة بقضاء الله وقدَره على خط مأساتها الشخصية، كانت الثقافة الدينية الإسلامية حاضرة. وهذه ما من مصلحة الغرب إستيعاب معانيها فلا ينظر إلى المحنة الغزاوية على نحو ما تريد إسرائيل وتحبذ دول الغرب الأميركي والأوروبي. عسى ولعل أحدث المجازر الوحشية في مدينة إحدى الولايات الأميركية (الخميس 26.10. 2023) تجعل الرئيس بايدن الذي تأثر كثيراً وأمر بتنكيس الإعلام، يعيد تقييم مشاعره البالغة القساوة إزاء ضحايا التوحش الإسرائيلي فينصف القضية الفلسطينية التي شاخت وتزايد التلاعب من دول الغرب الأميركي _ الأوروبي بها.
ويا ليت القادة الحاليون لهذه الدول يتأملون بعقل مفتوح في بعض آيات سورة "الإسراء" ثم بعد ذلك يستعيدون الأسلوب الذي تناول فيه وزير الخارجية الأميركية الأسبق وليم روجرز مِن على منبر منظمة الأمم المتحدة (الثلاثاء 2 سبتمبر/أيلول 1972) أهمية مواصلة التحرك نحو التسوية السلمية في الشرق الأوسط من دون أن تشكِّل تعثُّراً لها العملية الفدائية الفلسطينية التي عُرفت ﺑ "مجزرة ميونيخ" ونفذتْها مجموعة تابعة لحركة "فتح" تحمل إسم "أيلول الأسود" والشبيهة في بعض الدواعي بعملية المجموعة الحمساوية يوم 7 أكتوبر 2023. وكان الرئيس رجب طيب أردوغان خير مَن يفسر ﻟ نتنياهو وجمْعه المتعطش للتدمير الخبط عشوائي تلك الآيات القرآنية لو أنه لم يُلغِ غاضباً ومحتجاً وضاغطاً زيارة كان ينوي القيام بها إلى إسرائيل وفي برنامجها محاولة إقناع أهل القرار الإسرائيلي الراهن بأن معالجتهم للمباغتات من جانب الفلسطينيين وبالذات من جانب الحمساويين كونه أحد مساندي قضيتهم، ليس الحل وأن من مصلحة إستقرار إسرائيل الدولة أن تكون جارة للدولة الفلسطينية التي تعتمد بطبيعة الحال عند الإقرار بذلك إحدى رؤى الرسول الذي أوصى أمته بسابع جار .. وأكثر.
ولهذه الهوامش مثيلات من شأن مضامينها تهدئة الروْع المتبادل وإعتماد التبصر والتفكير بما يحقق الأمن ويرضي الضمير.. والله المعين والهادي إلى سواء السبيل والتوقف عن تدمير بيوت الآمنين وقتل أرواح حرَّم المولى قتْلها.
فؤاد مطر