الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

خير فرصة ضيّعوها

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 30/10/2023
في سياق أسلوب التباكي الإسرائيلي الذي يستهدف إبقاء القلوب الأميركية والغربية والروسية ممتلئة بنِسَب متفاوتة تعاطفاً مع حالة الاحتلال الفريدة من نوعها في القارات الخمس، يمسك بنيامين نتنياهو أحدث رؤساء الحكومات الإسرائيلية المعتدين على الحق الفلسطيني ومنه على التعاطف العربي _ الإسلامي مع شعب يعيش أسوأ حالات الاحتلال وأكثرها غرابة منذ ثلاثة أرباع قرن، "بوستر" من خطوط بداخله مساحة صغيرة ملونة يرفقها عند التخاطب بعبارة إن هذه المساحة الصغيرة جداً هي دولة إسرائيل بين مساحات مترامية الأطراف من دول عربية معادية لها.
ونحن عندما نقول أسوأ حالات الاحتلال وأكثرها غرابة فلأن المحتل جزء من شراكة أشبه بشركة ذات مجلس إدارة، وليس وحده الإسرائيلي الموهوب وطن غيره من جانب الواهبة تلك الأمبراطورية التي كانت لا تغيب الشمس عنها وجازاها الله عقاب الإنحسار عقداً بعد عقد بحيث فقدت الشأن الأمبراطوري وإقتربت من الظلمة بمعنى أنها باتت في نظر الولايات المتحدة مجرد دولة أوروبية تدور في فلك سياستها بمن في ذلك إتخاذ القرارات التي تفتقد إلى الروية وأنها في نظر روسيا والصين دولة برسم الإستهداف، إذا تمادت في ربط مواقفها أحياناً بموقف الولايات من الأزمات الكبرى. ولنا على سبيل المثال لا الحصر كيف أن ديمتري ميدفيديف الحجر الأكثر صلابة في بنيان قرارات كرملين الرئيس بوتين هدد بريطانيا غير مرة بعمليات حربية إذا هي تمادت في إنخراطها في قرار المواجهة الأميركية الأطلسية عموماً ضد الموقف الروسي في عراكه الحربي المتواصل مع أوكرانيا.
الآن وبعدما لامس الفأس الفلسطيني رأس التعاظم الإسرائيلي وأنتج هذا التلامس حالات متوحشة من الرد على النار التي أوقدتها "حركة حماس" وأثمرت جمراً إسرائيلياً أظهرت التطورات عُسر إطفائه، يتأمل المرء في ضحالة موقف دولي من حالة كان من شأن عدم الإستهانة بها توظيفها بغرض قطْع الطريق على ما حدث وطي صفحات ملأى بالفواجع والمباشرة بكتابة صفحة مشرقة في تاريخ المنطقة. وما نعنيه بالحالة هي أن ما بعد إطلاق "مبادرة السلام العربية" بات غير ما قبل الإطلاق، بل يجوز القول إنه بات عكس ما كان سائداً. فقد إعتدلت مواقف إتخذتها قيادات عربية بفعل الظروف من جهة والتطلعات المستقبلية من جهة أُخرى. وسنة تلو سنة هنالك عالم عربي _ إسلامي_أميركي _ صيني_ روسي_ أوروبي يُحسب له حساب. وما نقصده بذلك أن المصالح بين دول هذا العالم بات بمقدورها أن تضع على بساط البحث بغرض إعادة النظر في مواقف متحجرة إمكانية معالجة المعضلة الفلسطينية _ الإسرائيلية، خطة يتقبلها أطراف الصراع الذي طال إمعاناً في زعزعة الاستقرار. والذي يجعل مثل هذا الأمر ممكناً أن العلاقة المتجذرة من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية مع الدول العربية ذات الفاعلية في التأثير من أجل تذليل المصاعب يصبح ممكناً وتحديداً بالنسبة إلى الحل المستعصي العربي _ الإسرائيلي ما دامت المملكة العربية السعودية ومصر ودول الخليج والأردن والمغرب والجزائر وتونس إضافة إلى دول إسلامية منخرطة في نواح من ذلك الصراع مثل تركيا وباكستان وأندونيسيا في أحسن العلاقة مع الجناح الغربي من الكوكب الدولي أي الولايات المتحدة ودول أوروبا، وبالقدْر نفسه إلى حد ما مع الثنائي الصيني الروسي الفاعل والمتفهم وإن إختلفت من حيث طبيعة العلاقة ومقتضياتها عِلْماً أنها وفْق الإتفاقيات الحديثة الإبرام ذات آفاق إستراتيجية مثلثة الضرورات لمصالح الجميع: ثلث أفق سياسي وثلث أفق عسكري وثلث أفق تجاري وإقتصادي.
في مثل هذه الحال إن مبادرة للتسوية تصاغ وفق مضمون مبادرة السلام العربية أو تعتمد منطلقاتها يتم طرحها من على منبر الأمم المتحدة بهدف إلتفاف الجمع الدولي بنسبة عالية حولها لن تصطدم بإعتراضات عربية فاعلة لها بإعتبار أن دول الجناح الأميركي _ الأوروبي تمون على الطيف العربي المسلم في حال كانت له تحفظات وتمون بالنسبة نفسها دول الجناح الشرقي على رموز قادة الحقبة المستجدة في العالم العربي. وفي حال إلتقى الجمعان فإن إسرائيل يمكنها التحفظ إنما ليس الإعتراض.
لسوء حظ الاستقرار الثابت الذي تسمع به الدول المعنية بالصراع العربي _ الإسرائيلي ولا تراه وعلى نحو حالة الشاعر العراقي الراحل الجواهري الذي "أسمع عن بغداد ولا أراها" أن دول الجناح الأوروبي المستمتعة بإسطوانة صيغة الدولتيْن كلاماً لا تنفيذاً تتعمد أن يبقى الصراع على ما هو عليه منذ إفتعال إهداء فلسطين وطناً ليهود الشتات وتحويل أصحاب الوطن إلى جمعيْن واحد تحت الاحتلال وتحت القصف وفي قبضة سجانيه، وآخر موزع على بلاد الله الواسعة يحلم بإستعادة الوطن كاملاً أو يرتضي الوطن الذي رسمت معالمه مبادرة السلام العربية وليس كما خريطة نتنياهو الذي يحاول من رفْعها كأنها لوحة تزيِّن مكاتب ودواوين إسرائيل إذابة غضب أي معترض على "سفاري" تدمير البيوت والأبراج على ساكنيها أهل غزة، كما رحلة الصيادين في الصحارى والأدغال، وعلى محرقته الغزاوية المتواصلة توأم المحرقة الهتلرية، وغير عابىء بمَن يدين سلوكه وأسلوب قيادته ربما لإنه حائز بقبضة شماله ممالئة القادة الأوروبيين في معظمهم وأكثرهم ممالئة مستشار المانيا وبقبضة يمينه هنالك تعاطف على وجه السرعة للرئيس بايدن معه لدواع إنتخابية من خلال العبارة المثيرة وليست المأثورة للرئيس الأميركي "ليس بالضرورة أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً. أنا صهيوني". هكذا هو الرئيس "الديمقراطي" ومَن لا يعجبه هذا الموقف المبدئي فليذهب إلى غزة في إنتظار صاروخ من تلك المئات من الصواريخ التي زلزلت أرض غزة زلزالها. غزة التي إفتتح يوم الإثنين 24 يناير/كانون الثاني 2022 وزير السياحة والآثار التابعة ﻟ "حكومة حماس" في موقع كنسي في مدينة جباليا شمال قطاع غزة بعد إنتهاء أعمال الترميم فيها، أرضية فسيفسائية تُعتبر نادرة ومن الأكبر بين كنائس الشرق الأوسط. غزة التي سيكتب التاريخ ذات عصر ليس بالبعيد أن بعض بني قومها إستشهدوها وأن العم سام وبني المجتمع الغربي الظالم تلذذوا بشواء لحوم أطفال ونساء وعواجز قضوا بفعل صواريخ وجَّه بإطلاقها طيف غاب عن باله أنه يؤسس من هؤلاء الأطفال الذين قضى أباؤهم وأمهاتهم وجدودهم أمام أعينهم أجيالاً من المقاتلين سيبدو ثأرهم الآتي هو الأعظم قياساً بالثأر الراهن.
والله الناصر ومسدد الخطى. وكل ذلك لأن خير الفرص لإيجاد تسوية متوازنة للصراع العربي _ الإسرائيلي ضيعوها أو على طريق التضييع. فرصة تعطي للفلسطيني نصف حقه الذي هو دولته المستقلة وعاصمتها القدس، تعويضاً عن الدولة التي هي من البحر إلى النهر والتي رغم وجاهة هذا المطلب، إرتأت مبادرة السلام العربية الأخذ بما يمكن عوض الإسترداد بالقوة غير المتيسر ما أُخذ بالقوة الإسرائيلية الدولية المخطط لها.
هدا الله بنيامين التائه إلى سواء السبيل وأزال الغشاوة عن بصائر وعقول أهل القرار الأميركي والأوروبي الذين هم ساهون عن جوهر الحل الضميري للصراع العربي _ الإسرائيلي الذي تجسده مبادرة السلام العربية.
فؤاد مطر