الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

المعادلة التعجيزية في الجحيم الغزَّاوي

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 15/11/2023
ثمة معادلة بالغة الحساسية وتكاد تبدو تعجيزية في مسألة الجحيم الغزاوي أو عاشوراء الغزاوية أو الهولوكست الأكثر تطوراً من سلفه الهتلري على يديْ "إسرائيل نتنياهو" وكل هذه التوصيفات تنطبق على ما يحدث في غزة ويستهدف شعبها وأطفالها ومدارسها وكنائسها ومستشفياتها، وهي أن الدول العربية والإسلامية والصديقة تأخذ في الإعتبار أن الطرف العربي المسلم _ المسيحي الفلسطيني في مواجهة جنون العدوان الإسرائيلي ليس دولة لكي يكون التصرف من الدول العربية والإسلامية على غير ما هو الظاهر للعيان ومعلَن عنه ومن معالمه الفاعلة على الصعيد الوطني الحملة الشعبية عبْر منصة "ساهم" لإغاثة الشعب الفلسطيني في غزة التي وجَّه بها خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان ودشناها بمبلغ خمسين مليون ريال وأضفى مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ على الحملة بعداً روحياً من خلال قوله "إن هذا التوجيه من الأعمال الخيِّرة التي تؤكد حرص القيادة في هذا البلد على تلمُّس حاجات المنكوبين والمحتاجين للمساعدة وهي من محامد هذه الدولة التي قررت واجب المسلم تجاه أخيه المسلم من تفريغ للكرْب وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاجين...". وهذا القول يأتي تذكيراً وإسترشاداً بما جاء في وصية المؤسس الملك عبدالعزيز قبل 91 سنة للأبناء الملوك من بعده "عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة. إقض لوازمهم وأقِل عَثْرتهم وإنصح لهم".
ما يمكن إستنتاجه هو أن الحملة التقليدية والإكتفاء بالإشارة إليها والتي أحصى الكاتب السعودي مشعل السديري في مقالته ("الشرق الأوسط". الأحد 5/11/2023) الأرقام المليارية لمناسباتها من عام النكبة عام 1948 والمستمرة إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس .. بل وإلى ما بعد القيامة هذه، على نحو ما هو الصراط الإغاثي السعودي الواجب إسترشاداً بوصية المؤسس الملك عبدالعزيز رحمة الله عليه.. إن ما يمكن إستنتاجه هو أن الحملة التقليدية ذات منطلق قومي وطابع أخوي وضرورة غوثية وليست نجدة لغرض سياسي. كما أن ما يمكن قوله إستناداً إلى حملات الإغاثة التي تُوجِّه بها المملكة أن هذه الحملة بالذات ستكون بفعل من رعى ودشن وتفاعل الناس بمختلف درجات الإمكانات ما هو خير رد إنساني وكريم على ما أحدثه الإنتقام الإسرائيلي في الشعب الفلسطيني في غزة.
وللمرء أن يتساءل: هل هنالك نجدة أُخرى مختلفة كتلك التي بادرت إليها السعودية، فضلاً عن مساعدة إستشفائيه _ غذائية من مصر ومن الأردن ومساعدات جاهزة من معظم الدول العربية والإسلامية يتوقف تنفيذ إرسالها على وجه السرعة على وضع حد للعدوان الإسرائيلي المتواصل على مدار معظم ساعات الليل والنهار.
وما نقصده بالنجدة الأخرى المختلفة والفاعلة هي أن تتخذ دول أقامت مختارة أو مضطرة بدافع إجتهادات سياسية تحقق بالإلتزام والتدرج إستقراراً ثابتاً في المنطقة على المدى غير البعيد، خطوة إضطرارية لتلافي إحتمالات الضرر، كتلك المألوف إتخاذها عند حدوث حروب أو أزمات على درجة من الإستعصاء بين دولتيْن فتلجأ الأكثر تضرراً إلى خطوة تمهيدية تتمثل في إستدعاء السفير وإبلاغه لوماً بمستوى الأذى الذي تسبب بها نظامه، تليها في حال إرتفع منسوب الضرر ومعه الغضب خطوة أكثر فعالية وتتمثل في تبادل إستدعاء كل دولة سفيرها حيث تبقى السفارة شاغرة منصب السفير إلى حين إنجلاء الأزمة تفهماً بعد إعتذار أو التعهد بما يُبقي العلاقة مستقرة نسبياً وبما يرفع مع الوقت مستوى هذا الاستقرار، وهذا ما فعله ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وكذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أرفق الخطوة لاحقاً بنفض اليد من رئيس حكومة الهولوكست الجديد بعبارة ما تتجاوز في مقصدها سحْب سفير أو إستدعائه لكنها في الوقت نفسه بقوة قطْع العلاقات إلى حين إستعادة الثقة بذلك "الرئيس الهولوكستي". والعبارة هي "إن المسؤول عن الهجمات ضد غزة هو رئيس الوزراء نتنياهو شخصياً الذي لم يعد ممكناً الحديث معه...". كما هذا ما فعله الملك عبدالله الثاني الذي لم يغضبه علو منسوب الإحتجاج الشعبي في المملكة الهاشمية ضد إسرائيل والسياسة الأميركية ثم يضفي لفتة غوث جوية للغزاويين تتسم بالتحدي المدروس. ولولا المعاهدة التي أبرمها والده (الراحل) الملك حسين مع إسرائيل لكان من الطبيعي أن تكون نجدة المملكة الأردنية لفلسطينيي قطاع غزة أكثر فعالية. ويقال الأمر نفسه بالنسبة للرئيس عبدالفتاح السيسي الوارث كما الملك عبدالله الثاني عبء قيود معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس (الراحل) أنور السادات مع إسرائيل، وما زال عرَّابها الثنائي جيمي كارتر _ هنري كيسينجر على قيد الحياة مع بلوغ كل منهما مشارف قرن من العمر سيُصنَّف في ضوء "هولوكست" نتنياهو ووزيره الداعي إلى قصف الغزاويين أرضاً وبشراً بقنبلة ذرية من تلك القنابل التي ذات أفضال أميركية عليها على أنه قرن مثلث الشر المستطير نيرون _ هتلر_ نتنياهو.
خلاصة القول إن ما يجعل النجدة الحاسمة إلى حد ما للغزاويين غير ممكنة التفعيل هي المعاهدة التي أبرمتْها مصر الساداتية بأمل أن تكون أحد مفاتيح السلام المرجأ نشره في المنطقة، وحذا الأردن حذوها. ثم تتابعت بعد ذلك إتفاقات بعضها موقف وبعضها الآخر تبادل حُسن نوايا ورغبات لا يُحقق الحسم المأمول. وهكذا فإن العائق في أن لا يتواصل المشهد الغزاوي على هذه المأساوية التي هو عليها، يعود إلى أن إعادة النظر الجذرية من جانب طرفيْ المعاهدة ومن أولئك المتبادلين حُسْن النوايا والرغبات في ضوء نتائج الإختبارات، معناها البدء بفتح بوابات الحرب باباً تلو آخر كما حال المنطقة قبل 1967، وهذا يعني الإفساح في المجال أمام رئيس الأركان الإسرائيلي تنفيذ تهديده بأن السلاح الجوي قادر على الوصول إلى أي مكان في منطقة الشرق الأوسط، بعد التهديد العدواني الآخر تلويحاً بضرب قطاع غزة بقنبلة ذرية من جانب وزير في حكومة متهاونة ومستهينة بمحاولة عربية جادة لنشر السلام في المنطقة مما يعني طي آمال التطوير والتنمية والتحديث وتعويض ما فات على مدى نصف قرن، والبدء من جديد بكتابة سطور الحرب التي ستكون في ضوء الأحوال الراهنة من القطب إلى القطب بعدما بات للعرب دول كبرى مساندة لرؤاهم ومتفهمة أكثر من الجمع الأطلسي بدرجات السيء والأكثر سوءاً في إحترام مقاصدهم، الحرب الكونية الأولى التي لا خيار أمام أكثر من دولة متمكنة من أن تكون شريكة فيها. وهذا لا يعني أن القمة العربية _ الإسلامية التي عقدت في الرياض (السبت والأحد 11_12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لا ترى أن جرعة موقف عربي _ إسلامي متوازن في بيانها الختامي تحاشى التسميات وركز على الجوهر من شأنها إبقاء القضية في مدار الإهتمام بأعلى مستوياته. وهذه الجرعة قد تبلسم الجراح وتبعث في النفس بعض الطمأنينة في حال جاء نتاج القمة كما من نسيج اللاءات الثلاث للقمة العربية الإستثنائية في الخرطوم (سبتمبر 1967) التي إعتمد قادة الأمة فيها "صيغة إزالة آثار العدوان" بحيث يلتقي المجتمع الدولي مع الرؤى الموضوعية للقمة العربية _ الإسلامية في وضع حد لما تقترفه "إسرائيل نتنياهو" وما زال الإقتراف على أشده في حق أنام من كل الأعمار حرّم الله قتلهم.. هذا إلى جانب تدمير ممنهج وموضع تشجيع أميركي_أوروبي على مستوى الحكومات يقابله عدم رضى شعبي ملحوظ يرفض الظلم والإستهانة بحقوق الإنسان الفلسطيني في العيش الكريم في وطنه، وعلى نحو ما رسمت الحل المتوازن القمة العربية _ الإسلامية بما أثمرته الإستضافة مكانا وإدارة وحرصا ورعاية من عوائد.
والله يجزي فاعلي السعي إلى الإستقرار والأمان والإزدهار.
فؤاد مطر