الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

رهان البرهان.. وما بعده

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الجمعة 1/9/2023

يشكِّل الحضور المفاجئ جواً لرئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى مصر ولقاءه وتحادثه مع الرئيس عبدالفتاح السيسي تعديلاً مهماً في المشهد السوداني المحزن. وهذا بصرف النظر عن إدعاءات كل من طرفيْ الإحتراب غير الإنساني بينهما على السودان البشر والحجر وكيف أن هذا الوطن تبعثر كما لم تتبعثر أوطان وأستُهينت كرامات وإنتُهكت أعراض وإنتشرت غيمات حارقة وسوداء )كتلك التي شاهدها العالم في سماء العاصمة اللبنانية جرَّاء تفجير معلوم _ مجهول الدواعي والفاعلين( في فضاء العاصمة المثلثة الخرطوم ذات التراث العريق في مقارعة الإنكليز والإستضافة الأخوية قبل 56 سنة للملوك والرؤساء العرب في مثل هذا الأيلول الأفريقي الإنقلابي وممارسة دبلوماسية محمد أحمد محجوب وعفوية إسماعيل الأزهري (رحمة الله عليهما) التي تشد من عزيمة الثبات على مواصلة الصمود المصري _ الأردني _ السوري فلا تكون هزيمة الخامس من يونيو أكثر من مجرد صدمة بالغة المرارة، لكن عندما يضيق الصدر فإن التسبيح بحمد الرب هو خير علاج. وفي تلك القمة كان التسبيح في أصفى درجاته. وكان عطاء المقتدرين بمثابة رفْد الشريان العربي بما يجعل القلب أقوى والهمم أنشط. وهذا ما حدث.
لم تنطلق طائرة البرهان من مطار الخرطوم لأن صواريخ طيران جنرال المؤسسة العسكرية (البرهان) وقذائف مدرعات جنرال الدعم السريع (حميدتي) أمعنت تعطيلاً بعد قصفات لحركة الطيران منه وإليه. وللمرء أن يتصور حالة عاصمة يقصف طيارون أنفق الشعب من قوته على مؤسستهم العسكرية لكي يكون فيها سلاح جوي يحمي سماءهم وليس قصف مناطق من بينها مطار العاصمة، وكما حال هذه العاصمة تتعرض مناطق فيها إلى القصف من مدرعات وآليات عساكر من النخبة تدريباً لا سامح الله هذا ولا غفر الله لأولئك.
بدل الإنطلاق من مطار العاصمة توجه الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى بور سودان بعد خمس سنوات إقتتال وبدا في ذلك يوحي بأنها قد تكون العاصمة البديل للخرطوم، كما بدا في ما فعل مثل سائر النازحين الذين غادروا السودان هلعين عبْر سفن سعودية إلى جدة. وهذا معناه أنها مغادرة المضطر وليس الحاسم أمر المواجهة مع رفيق السلاح الآخر شريكه بداية خصمه لاحقاً وإرفاق الخصومة بصفات تمحو سمو الشراكة في إدارة الأزمة قبل بدء الحرب شكلاً ضد بعضهما، وأما النتائج فكارثة متدرجة للسودان البشر والحجر.
جاء البرهان إلى العلمين المنطقة الساحلية الجميلة التي لزميله في الجنرالية رومل الهتلري بصمة تاريخية فيها، وأما اليوم فإنها المكان السياحي الجميل الذي تصدح فيه حناجر المطربين والمطربات فضلاً عن فعاليات ترفيهية ورياضية، وجاء البرهان خالعاً ثياب الميدان مرتدياً البدلة الأنيقة متحادثاً مع الرئيس السيسي الذي طالما بذل من السعي المشكور المضاف إلى بداية السعي السعودي ثم السعودي _ الأميركي لاحقاً، من أجْل إحلال التعقل محل التحدي وبذلك لا تستمر الحرب المكروهة دينياً المستنكَرة شعبياً المرفوضة عربياً وأفريقياً ودولياً, وجاء فيما الأمم المتحدة ترى في معرض التحذير أن الحرب والجوع يهددان بتدمير السودان، وفيما دعوات ومرجعيات عربية ودولية إلى إعتماد الحكمة في التصرف وإستبدال المواجهة بهدنة طويلة تنتهي إلى وفاق.
من الجائز الإفتراض أن الفريق أول البرهان إختار مصر محطة أولى بأمل أن تمهد للترحيب به في ثلاث محطات خليجية للإيحاء بأنه يحذو في ما فعل حذو الرئيس السيسي، أي بما معناه أنه مثلما أن السيسي أنجز حلاً وإستقراراً بعدما وجه الضربة شبه القاضية لتنظيم الإخوان المسلمين ولرئيسهم الذي عيَّنوه (الراحل محمد مرسي) فإن البرهان سيوجه بالمساندة المصرية والخليجية (في حال نالها) للمؤسسة العسكرية التي يترأسها الضربة القاضية ﻟ "قوات الدعم السريع" وقائدها الفريق أول محمد دقلو (حميدتي) على أساس أن هذا الأخير (في نظر البرهان) هو مثل محمد مرسي (في نظر السيسي يوم كان وزيراً للدفاع في نظام الرئيس الإخواني وقد أسلم الروح فيما هو قابع في السجن). لكن المقارنة هنا تفتقر إلى عنصر مهم وهو أن السيسي كان مطْمئناً إلى عمق شعبي مناصر له في حسم الأمر مع الإخوان وقيادتهم بتنوع مستوياتهم. وهذا ما حدث بالفعل. في حين أن هنالك جفوة عميقة من جانب الطيف المدني السوداني من البرهان وذلك لأنه وفي مرحلة من صفاء الشراكة مع حميدتي أسقط من أجندة التسوية دور الجناح المدني من خلال الأحزاب والنقابات والعائلات السياسية التقليدية العريقة في أن يكون الحكم بالتساوي، مع ملاحظة أن بعض رموز الطيف المدني ساعدوا بإحداث حالة نفور جنرالية عندما دأب كثيرون منهم على المطالبة بالحكم المدني وإنصراف الجيش ومعه قوات الدعم السريع إلى الثكنات، وذلك كان خطأ أدى إلى ما إنتهت إليه الحال التي وضعت السودان الشعب والكيان في مهب المغامرات الجنرالية.
وحيث أن للطرف الآخر من الحرب (أي قائد قوات الدعم السريع) خطوطاً سالكة إقليمياً ودولياً وحضوراً قبائلياً ومصالح تجارية إلى جانب الشأن العسكري والإقتدار القتالي، فإن بقاء حميدتي في السودان غير مغادر لا من بورهِ ولا من منفذ حدودي سالك له يضفي عليه صفة الواثق من نفسه ومن أهمية رقمه في أي تسوية في حال صمد مطْمئناً إلى إستمرار بعض الدعم الإقليمي والدولي له.
ويبقى في إنتظار ما تحمله الأيام من تطورات القول إن مصر تقليدياً هي مع السودان الكيان ومشاعرها مع الشعب. هكذا منذ الشعار التاريخي "السودان لمصر ومصر للسودان" وكذلك منذ التعبير الشعبي المتداول جيلاً بعد جيل "مصر والسودان حتة واحدة". ومعنى قولنا هنا أن رهان البرهان على موقف مصر من خلال مساندة الرئيس السيسي له المنشغل منذ أيام بالتحضير لولاية رئاسية جديدة كفيل بإحياء السعي الذي بدأ في جدة وكان بمثابة مدخل إلى فرصة ليس جائزاً بعد هذه المراهنة العبثية على مَن يكسر شوكة مَن: البرهان أم حميدتي، عدم إلتقاط الفرصة وتطوير المسعى بحيث يضم الطيف المدني وعلى نحو ما كان عليه هذا الطيف قبْل أن يتبادل الجنرالان إشهار السيوف.
وخير ختام يمكن قوله للجنرال العائد أكثر عناداً من العلمين إلى "العاصمة" المؤقتة للبلاد (بورسودان) في هذا الصدد هو قول للمتنبي ينطبق تماماً على الشقيقيْن الجنراليْن اللدوديْن وهو: أخا الحرب قد أتعبتْها فألْهُ ساعة.. ليغمد نصل أو يفك حزام.
والله الغافر لمَن يهتديان.
فؤاد مطر