الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

من باندونغ إلى جدة

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"

 بتاريخ الخميس 10/8/2023

 

ثمة إعادات نظر في الرؤى وفي المواقف تثير الدهشة وترسم في الأفق ملامح خرائط وعلاقات جديدة.

مَن كان يتصور أن ايمانويل ماكرون ولمجرد أن إستقرت كرسي رئاسته الأولى يرمي في الحلبة السياسية الدولية فكرة الجيش الأوروبي مفترضاً وإن كان لم يفصح على النحو الكافي أن حرباً عالمية ثالثة لا بد ستحدث بين أميركا وروسيا. وفي هذه الحال من مصلحة أوروبا إنتهاج الحياد وتقوية دفاعات جيش أوروبي يرد الضيم عن القارة العجوز. وتأتي  رؤية الرئيس ماكرون هذه قريبة الشبه من رؤية بناة حركة عدم الإنحياز في الخمسينات البانديت نهرو، جمال عبدالناصر، الماريشال تيتو، كوامي نكروما، أحمد سوكارنو. وهؤلاء رأوا أن خير موقف يمكن إتخاذه إزاء الصراع الذي بات على أهبة الإنتقال من البارد إلى الساخن بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، هو إستنباط صيغة بعيدة عن معسكر الناتو وعن معسكر وارسو، هذان الحلفان اللذان يعتمدان التحدي أسلوباً والمواجهة هدفاً.

ولقد تشاطر البناة، أو فلنقل تحاذقوا بإيحائهم أنهم في حركتهم ليسوا ضد أميركا وحلفها الأطلسي ولا ضد الإتحاد السوفياتي وحلفه الشيوعي، وأن مبتغاهم السلامة أي ترْكهم في حالهم.

إزدادت حركة عدم الإنحياز إنتفاخاً وباتت ملاذ الذين لا حول لهم يرون في الحركة أنها نادي المستضعفين إنما العقلاء في الوقت نفسه.. هذا إلى أن مبادئ الحركة جذابة وتصون العضو المنتسب من الأذى في حال إلتزم بمضمون المبادئ. ونقول ذلك من منطلق أن ما دوَّنه القادة المؤسسون بصيغة مبادرة أو فلنقل دستور الحركة قبْل 63 سنة في باندونغ لم يمنع المستقوين من الأعضاء من تجاوز المبادئ ومنها على سبيل المثال ذلك المبدأ الذي ينص على عدم التدخل في شؤون الآخرين.

الآن بعد ستة عقود تأخذ المملكة العربية السعودية زمام مبادرة تستهدف ما كانت روح حركة عدم الإنحياز تواقة إليه، ويضيف ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان إلى إبتكارات رؤية إرتبطت بشخصه، ما واكبْنا حدوثه في جدة يوم السبت 5 أغسطس/آب 2023 ويتمثل بمؤتمر تشاوري أمني دولي غير مسبوق ويكتسب أهمية كون المشاركين هم الأقرب إلى الذين في القمة وموضع ثقة محسوبة بدقة، فضلاً عن أن تجربة العلاج المتدرج للأزمات والخلافات العاصفة التي أداها هؤلاء وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حدث في بكين وحقق بداية إنفراج متدرج في العلاقة السعودية _ الإيرانية يتمنى المرء المزيد من التفعيل من جانب أهل القرار في الجمهورية الإسلامية لها وبذلك قد تشق الإنفراجة طريقها في لبنان وتأخذ الهداية سبيلها بما لا يضطر الخليجيون الحادبون على لبنان في أزماته الصعبة يتخذون من القرارات القابلة العودة عنها كون المحب يعتب ويغضب لكنه يترك لإستعادة الود سبيلاً.

كانت المعالجة الأطلسية _ الأميركية_ الروسية _ الأوكرانية دخلت نفق الإستعصاء وكانت تحتاج إلى من يرفد التعقيدات الدولية والعناد بما لا يجعل الحرائق تواصل الإشتعال. وجاءت المبادرة السعودية توكل إلى الذين يحوزون ثقة الذين في القمة التشاور. فما يقوله هؤلاء بعضاً لبعض يتفادى عادة الذين في القمة من قوله. وما ينتهي إليه هؤلاء في ضوء التشاور لا يتحقق عادة في لقاءات أهل القمة لحرص هؤلاء على خصوصية المقامات.

بعد الآن باتت صيغة التشاور الأمني كما واكبنا نتائجها المعلنة والمرفقة بالترحيب، علاجاً مهدئاً شافياً في حال تم أخذ الأمور بالروية. مثل هذه الخطوة النوعية ستنعكس إيجاباً على الدورة السنوية العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد أيام. ومثل هذه الخطوة تحققت ملامحها بعدما تبلورت رؤية الوفاق الدولي _ الإقليمي كما رسم معالمها بُعد نظر خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز ووضعها موضع التطبيق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي لولا التوازن في العلاقة مع الدول الكبرى ومبادرات التهدئة للحرب الروسية _ الأوكرانية لما باتت جدة من خلال مؤتمرها رمز إمكانية العلاج للصراعات التي تضع حداً لحروب وتمهد الطريق أمام نهاية المواجهات التي تحرق الأرض وتقتل البشر.

وبعد الآن سيقال إن دوريْن محورييْن إرتبطا بالعرب لمصلحة العالم. دور الرئيس جمال عبدالناصر من خلال علاقة نوعية مع قيادات أممية في الستينات أثمرت ولادة حركة عدم الإنحياز في باندونغ. ودور بالغ التميز من أجل سلام العالم رسمه الملك سلمان وترجمه خير ترجمة وأدق تنفيذ ولي عهده وبحيث سيقال إن طبيعة الصراعات ما بعد مؤتمر جدة هي غيرها عما كانت عليه.

ومَن عمل خيراً خيراً يره يا خادم الحرمين الشريفين.. ويا ولي العهد.