الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

التقريع الفرنسي ﻟ اللبناني المبتلي

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 20/7/2023

يترك العمل الدبلوماسي في لبنان من جانب سفراء عرب وأجانب مشاعر وجدانية عموماً يعبِّرون عنها في مناسبة إنقضاء سنوات عملهم في الدولة التي هي بمساحة احدى الولايات أو المحافظات في بعض الدول، لكنها من حيث الحيوية السياسية والتركيبة الحزبية والطوائفية تبدو وكما لو أنها من الدول الكبرى. وإعتاد معظم هؤلاء السفراء على تسجيل مشاعرهم في صيغة رسالة وداعية إلى جانب تصريحات في مناسبات عابرة.

وتترك وداعيات هؤلاء التي هي من نوعية الرباعيات الوجدانية لدى بعض الشعراء شعوراً طيباً في نفوس سامعيها أو قارئيها. كما يكون هنالك حرص على التفاؤل خيراً وإهتماماً لاحقاً من جانب الدولة التي يمثلها السفير.
كان هذا هو ما يحدث إلى أن خرجت السفيرة الفرنسية آن غريو يوم الجمعة 14 يوليو/ تموز 2023 على المألوف كما على الكياسة إذا جاز التحديد، وجعلت من كلمتها في إحتفال السفارة في القصر التاريخي الذي يعود إلى زمن الإنتداب ما يشبه المطالعة من جانب المدعي العام في محكمة يحاول من خلالها إثبات التهمة على المدعى عليه وإنزال العقوبة التي تجعله لا يكرر فعله المبغوض.
وفي حضور رحب تمثلت فيه الدولة والأحزاب وهيئات من المجتمع المدني اللبناني وممثلين عن قيادات أمنية، إغتنمت السفيرة مناسبة العيد الوطني (14 يوليو من العام) المتزامنة مع إنتهاء عملها سفيرة لدى لبنان لتفاجىء الجميع بما دونته في وداعيتها التي تضمنت من العبارات البالغة الخشونة ما يتناقض مع رومانسية المرأة الفرنسية عند التخاطب عِلْماً بأن الأحوال العامة التي يعيشها اللبنانيون وبالذات منذ السنوات الخمس العجاف تؤكد ما قالته السفيرة ربما بداعي ذروة الأسى على لبنان وربما لأن التقريع بات لا بد منه ما دام السعي من جانب حكومتها لحل الأزمة لا يلقى التفعيل المطلوب. ومن عباراتها التقريعية "ما كان ليصبح عليه وضع لبنان اليوم لو أن فرنسا إستسلمت ولو أن إلتزامها إلى جانبكم بمساعدة دول صديقة تلاشى وتوقَّف ؟ " ومن نماذج الأسئلة التي طرحتها "أين كنتم لو أن فرنسا لم تحتضن مع شركائها قواكم الأمنية وأين كنتم لو أن فرنسا لم تحشد جهود المجتمع الدولي ثلاث مرات متتالية لتُجنبكم إنهياراً عنيفاً تحت وطأة الإفلاس المالي والإنفجار في مرفأ بيروت .. ولو لم تهُب لدعم مدارسكم كي لا تغلق أبوابها.. ولو أن الشركات الفرنسية قلصت أعمالها وتخلت عن فُرق العمل المحلية فيها". ثم تناولت غريو مهمة لودريان وأعلنت أن وساطته "خطوة تهدف إلى جمع بلدان المنطقة والمجتمع الدولي التي ما زالت تهتم بمستقبل لبنان وقد أصبح وجودها نادراً كما ترمي إلى توفير الظروف الضرورية لإقامة حوار هادئ بين أفرقاء لا يتحدثون مع بعضهم البعض عِلماً أنه يقع عليهم جميعاً إنتخاب رئيس للجمهورية ...".
عبارات التقريع من جانب السفيرة المغادِرة جعلتْني أستحضر وداعيات تخلو من هذه الخشونة من بينها وداعية السفير الفرنسي السلف برونو فوشيه قبل ثلاث سنوات الذي أوجز وداعيته في تغريدة جاء فيها "أحمل معي بعد ثلاث سنوات في بلد مثير ذكرى المواهب التي واجهتها. هذا البلد يجب أن ينجح إنه يستحق ذلك. أيها السادة السياسيون، إنسوا مشاجراتكم. 6000 عام من التاريخ يراقبكم ويحكم عليكم! وداعاً للجميع. أحبكم".
كما أستحضر من باب المقارنة عبارات للتدليل على طبيعة المشاعر وعلى ما في النفوس وداعية أحد سفراء الدولة الجارة لفرنسا كذلك وداعية سفير الصين الدولة الأبعد التي باتت شاغلة بال الكبار موضع طمأنينة وإهتمام العالم العربي بعد التوافق المحترم في الرؤى. فالسفير البريطاني أيان كولارد قال في وداعيته "أنا حزين لرحيلي إذ إستمتعتُ كثيراً بتجاربي اللبنانية. قد يكون قد يكون لبنان صغيراً، لكنه مكتمل التكوين من نواحٍ عدة. يتمتع لبنان بالعديد من المقومات الضرورية للنجاح، ولا سيما الأساس الراسخ في تاريخه الغني والعميق، تستكمله حيوية حديثة وريادة أعمال وقدرة بشرية لا يمكن التغاضي عنها. ومع ذلك، فإن جوهرة شرق البحر الأبيض المتوسط لا ترقى إلى مستوى إمكاناتها. يعاني الكثيرون منكم في ظل استمرار فشل أصحاب النفوذ في لبنان في خدمة مصالحكم - مصالح الشعب اللبناني. تظل أولويات المملكة المتحدة واضحة. الحكومة البريطانية ملتزمة بدعم استقرار لبنان وأمنه. لقد عمّقنا ووسّعنا شراكاتنا مع الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. ساعد دعْمنا لقطاع التعليم في بناء مستقبل أفضل لشباب لبنان، أولئك الذين سيكونون جيل المستقبل من القادة اللبنانيين. سنستمر في دعم الفئات الأكثر ضعفًا، والدفاع عن حقوقهم، والدفاع عن أولئك المعرَّضين لخطر التحيز والإضطهاد. لبنان مهم وفي عام 2019، قالت جلالة الملكة إليزابيث الثانية إنّ لبنان كان “رمزًا للتنوع والتسامح والصمود”. وأعربت عن أملها في استمرار أواصر الصداقة القوية بين بلدينا لسنوات عديدة. واليوم عند مغادرتي لبنان بصفتي سفير جلالة الملكة، أشاطرها طموحها. أنا فخور بأننا، المملكة المتحدة، نواصل أداء دورنا كصديق ثابت لكم - صديق للشعب اللبناني...".
وأما السفير الصيني وانغ كيجان فأوجز مشاعره في الوداعية المطولة والتي كانت بمثابة كشف حساب بالعبارات الآتية: "لم أشعر بأيّ غربة على رغم وجودي في بلد أجنبي، لأنه خلال فترة إقامتي هنا على مدى ثلاث سنوات، أعيش دائماً في جوٍّ ودّي، إذ قُوبلت بترحيب حار وحفاوة كريمة أينما ذهبت، وكثير من اللبنانيين يحيونني بالكلمة الصينية «ني حاو» (يعني أهلاً وسهلاً بك). قضيتُ فترة إقامتي في لبنان بسعادة وفرح، وقد أرست هذه المشاعر الصادقة والودّية حجر الزاوية بثباتٍ أكبر وبقوة دافعة لعلاقاتٍ قوامها الديمومة بين البلدين، وهي تجسّد أفضل تفسير للقول الصيني بأنّ العلاقات بين البلدان أساسها المودة بين الشعوب. على رغم أنني على وشك مغادرة لبنان، ستكون السنوات الثلاث الماضية خلال إقامتي فى لبنان ربيعاً دائماً في ذاكرتي. أينما أكن، سأهتمّ بلبنان بإستمرار وسأواصل جهودي لتطوير العلاقات بين البلديْن. وأتمنّى مزيداً من الجمال للبنان في المستقبل وأن يأتي نسيم المحبة بين الصين ولبنان بمزيد من الفوائد لمصلحة الشعبيْن الصديقيْن!".
قد تكون السفيرة في وداعيتها إستحضرت تلك البادرة الطيبة من جانب الرئيس ماكرون الذي زار لبنان مواسياً في كارثة مرفأ بيروت، وكذلك تقمصت التوصيف السائد لدى اللبنانيين وتحديداً جيل أجداد وآباء الحاضر وهو أن فرنسا هي "الأم الحنون" وبحيث تصرفت ضمناً وهي تدون وداعيتها وتلقيها أمام ضيوف حفل اليوم الوطني على أنها هي "السفيرة الحنون". ومَن كان حانياً أو حانية فإن حنوها يجيز لها ما يتجاوز المفردات الرومانسية وإعتماد العبارات الكثيرة الخشونة بغرض المحب الذي يريد لشعب بلد أحبه أن يهتدي إلى سواء السبيل. لكن مفردات التقريع رمت بثقلها على المشاعر.
ومن حقنا التساؤل: هل هذا ما يراه الرئيس ماكرون الإبن البار ﻟ "الأم الحنون" تجاه الإبن الوطن لبنان. أم أن للإبنة السفيرة تقييماً مغايراً عبَّرت عنه ﺒوداعيتها التقريعية. والإجابة ستتضح معالمها في ما ستسفر عنه مساعي الدبلوماسي الفرنسي العريق جان إيف لودريان في محطات حراكه بين جدة وبيروت والدوحة. ومثلما أن مَن يتفاءل بالخير يجده، فإن اللبناني المبتلي الذي يكابد ويلات العناد السياسي والحزبي يتفاءل بالحل بأمل أن يتحقق.
فؤاد مطر