الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

المنطقة ذات المسلسليْن

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 17/7/2023

الآن ونحن نقرأ بين سطور رد الفعل الباهت من جانب الرئيس الأميركي جو بايدن، ومثله بهوتاً رد الفعل الأوروبي، على إقتحام ألفين من قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين الذي لا تزيد مساحته عن نصف كيلومتر مربع ويرتضي سكانه البالغ عددهم حوالى خمسة عشر ألفاً من مختلف الأعمار هذا العيش القهري.. الآن ونحن نقرأ بين السطور نتساءل:

هل أطفأ أرييل شارون شعلة النضال الفلسطيني بما إقترفه في حق المنتظرين في مخيم صبرا وشاتيلا في العاصمة بيروت وغيره من المخيمات الفلسطينية الموزعة على مناطق سُنية وشيعية ومارونية وأرثوذكسية ودرزية، إحقاق بعض العدالة الإنسانية والأممية وذلك بإرتضائهم عوض دولة من النهر إلى البحر، دولة عاصمتها القدس الشرقية إلى جانب الدولة التي إحتلتها أطياف من سائر دول العالم هدية من المملكة العظمى في زمن بلفوري إستعماري مسكون بالأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
الجواب عن هذا التساؤل هو أن الشعلة لم تنطفىء وأفرزت المزيد وباتت أجيال الحاضر الفلسطيني أكثر إصراراً على نيْل المطالب غلاباً ما دامت لا تؤخذ بالتمني فقط وبالوعود الأميركية والأوروبية التي تمالىء أكثر منها إلتزاماً بالمبدئية.
إستحضار الفعل الشاروني هو للقول ما معناه إن الذي إقترفه بنيامين نتنياهو في مخيم جنين بإقتحام هو الأشد ضراوة منذ إقتحام سابق للمخيم نفسه في العام 2002 وبحقد مضاعف من ذلك الحقد الشاروني، لن يطفىء شعلة النضال الفلسطيني وأن جيل الأحفاد في هذا المخيم الذي إستملجه أجدادهم وأباؤهم منذ إقامته عام 1948 باتوا أكثر توقاً للنضال بالحجارة أو بالإستشهاد عند الضرورة بفعل عمليات نوعية كتلك التي حدثت في تل أبيب وأحرجت نتنياهو فزادته خروجاً على الأصول، ومن جانب آخر حملت السُلطة الفلسطينية وقد قارب صبرها على الهوس المستحكم في الحكومة الإسرائيلية على التفكير بقص الشريط الرخو أصلاً الذي يشد أواصر الدور الأمني والسياسي لسلطة الرئيس محمود عباس المعترَف به إسرائيلياً ودولياً. وهذا يعني أن جيل الأحفاد من حركة "فتح" المستأثرة بالسلطة الفلسطينية الرسمية سيغدو في ذروة غضبه من الذي يجري مثل جيل الأحفاد في "فلسطين الغزاوية" وفلسطين المخيمات المنتشرة في بعض الربوع العربية.
بدل أن يحاسَب شارون من قِبَل العقلاء في المجتمع الإسرائيلي على ما فعله في مخيم صبرا وشاتيلا ومناطق أُخرى فإنه كوفىء بتعيينه رئيساً للحكومة في إسرائيل. مثل هذه المكافأة لا يحتاجها نتنياهو الذي مارس فعْله التدميري في مخيم جنين وهو رئيس للحكومة التي بعض أعضائها من النسيج التدميري نفسه. هنا يجوز الإفتراض أن نتنياهو رفع سقف الإنتقام بأمل أن تطوي السُلطة القضائية ملف الإتهام المعلق والذي في حال إنسيابه يمثُل أمام المحكمة وقد تصدر الأحكام بسجنه على نحو ما سبق لرئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت. كما أن نتنياهو إقترف الإثم العدواني في مخيم جنين لأن الدول العربية التي طبّعت دبلوماسياً وإقتصادياً مع إسرائيل لا تلبي رغبته في زيارتها وزاده هذا الموقف غضباً ترجمه بالإثم الذي إقترفه في مخيم جنين مفترضاً أن القادة العرب غير المرحبين بزيارته لعواصم بلادهم سيعدِّلون كون موقفهم ويستقبلون نتنياهو للقول له إن عليه بعد الآن عدم تكرار آثامه العدوانية والتفكير بصيغة العيش المشترَك وعلى نحو ما تنص عليه المبادرة العربية للسلام.
هذه الضراوة عسكرياً وكلامياً من جانب رموز الاحتلال الذي على أبواب دخول الربع المتبقي من القرن تأخذ مداها، وفي كل مرة بسلوك أكثر تسفيهاً للواجب الأميركي _ الأوروبي الخجول عموماً وذلك من خلال تعامل الرئاسات والحكومات في كل من الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية مع القضية الفلسطينية المعلَّق حسْمها. وعندما لا يصدر من تلك الرئاسات والحكومات ما هو أكثر من الدعوة إلى التهدئة والتذكير العابر بصيغة الدولتيْنن من دون تفعيل لهذه الصيغة فهذا في حد ذاته يجعل أهل الحُكْم الإسرائيلي.. وبالذات الراهن في شخص نتنياهو وبعض الذين حوله الذين يضيفون رمي المزيد من الحطب على نار عدوانيته وتجعله يصل في إهانته للشرعية الدولية إلى حد الدعوة إلى إجتثاث صيغة الدولة الفلسطينية.
لقد إكتفى الرئيس بايدن في اللقاء التلفزيوني معه (شبكة سي. إن. إن_ الأحد 10 يوليو/تموز 2023) بالقول ما معناه إن وجود متطرفين في حكومة نتنياهو سبب المشكلة وأن نتنياهو يذكِّره ﺒغولدا مئير. وأما الحل في نظره فأوجزه بعبارة "إن حل الدولتيْن لا يزال هو الطريق الصحيح لوضع حد للصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي" مع التأكيد بأن إلتزام الإدارة الأميركية ثابت بأمن إسرائيل...".
لو أن الرئيس بايدن حريص على صيغة الدولتيْن لكان سمى "مبادرة السلام العربية". بل إن الرؤساء الذين سبقوه من كارتر ونيكسون إلى بوش الأب وكلينتون ثم بوش الإبن يليه أوباما ثم ترمب فالرئيس الحالي حصلوا على فرص عربية كفيلة بتحقيق التسوية الثابتة والمقبولة التي تغني الشعوب عن جولات متواصلة من الصراع. ولكن الرؤساء أولئك لم يوظفوا عملية السلام المتبادَل بين مصر السادات وإسرائيل مناحيم بيغن وعملية لاحقة بين الأردن وإسرائيل. كما لم يجعلوا من مبادرة السلام العربية بوابة آمنة لحل ثابت. ولأن سلوك تعاملهم كان على هذا النحو فإن الدول الأوروبية حذت حذوهم. وها هو الإتحاد الأوروبي لا يرى في الذي فعله التطرف الإسرائيلي في مخيم جنين سوى "أنه مؤلم وإنتهاك للقانون الدولي".
خلاصة القول إنه بدل التملق الأميركي _ الأوروبي لإسرائيل ومسايرة التطرف من الأجدى مؤازرة بيد الطيف العاقل من الإسرائيليين الذين يريدون العيش الهادىء كما الذي يريده الفلسطينيون الذين ضاقوا درعاً بالعيش المذل على أرض أجدادهم وآبائهم ويتطلعون إلى دولة إقامة آمنة تعويضاً عن كامل الوطن، عدا ذلك يعني أن المسلسلين سيستمران على الوتيرة نفسها مسلسل الإقرار الأميركي _ الأوروبي بأن الحل في دولتين من دون تفعيل لهذا الحل. ومسلسل النضال من جانب الجيل الفلسطيني الثالث جيل الأحفاد وتصعيد عنف التطرف الإسرائيلي لإطفاء جذوة هذا النضال. وفي نهاية الأمر ينتصر الحق الفلسطيني على السالب الإسرائيلي وعلى الراعي الأميركي _ الأوروبي لهذا السلب. والله القادر.
فؤاد مطر