الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لا إغضاب... فلا غضب

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الجمعة 14/7/2023

ها هي صيغة الوفاق السعودي_ الإيراني تصبح أمثولة بعد خطوات دبلوماسية متأنية ووفْق رؤية واقعية رسمت معالمها القيادتان في كل من الرياض وطهران وعيناً صينية ساهرة تقابلها عين بايدينية جاحظة. وهذه الصيغة إياها تأخذ في الإعتبار أن الحُكم المستقر هو في الحاكم المتطلع إلى نهوض للدولة في معظم المجالات وعلاقة متوازنة مع دول العالم وبشكل خاص مع دول الجوار والإقليم عموماً. وبمعنى أكثر وضوحاً أن يتفادى هذا الحاكم غضب الآخر بتفادي إغضابه تدخلات مستترة وعلى الملأ السياسي والحزبي أحياناً.

وبقدْر ما نتمناه للأمثولة بأن تتكرس ويأخذ بها الذين أخذت الخلافات والأزمات المستحكمة من واجبات أهل الحكم تجاه الوطن والشعب، فإننا نتمنى أن يكون لدى الرئاسة الإيرانية الكثير من التأمل بواقعية للأجواء الناشئة عن ذلك الوفاق الذي تتواصل خطواته فلا يرمي مسؤول إيراني من هنا وآخر من هناك في ساحة التوافق المستجد الرحب ألغاماً كلامية على نحو ما فعل ذلك وزير العمل الإيراني سيد صولت مرتضوي الذي قال في تصريح "إن لبنان جزء من الأمة الإسلامية والدفاع عنه بمثابة الدفاع عنها...". وتلك نظرة تتجاوز واقع الصيغة اللبنانية الطوائفية الإسلامية _ المسيحية المسلَّم بها من الدول العربية والإسلامية بما في ذلك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. كما نتمنى ألاَّ تحوِّل مسألة الحقل البحري الغني بالغاز والمسمى حقل "الدرَّة" إلى أزمة في حال عدم الإقرار بأحقية كويتية _ سعودية لهذا الحقل والتمسك بتصريحات تتسم بالتلويح أكثر من الجزم من جانب مسؤول إيراني سمَّى الحقل بالفارسية (أرش) بدل التسمية العربية (الدرَّة) بمعناها الذي أشبه بالجوهرة. وهذه الخطوة التي هي بمثابة التأهب لموقف أكثر تشدداً يجعلنا أمام حالة عالقة مضافة إلى حالة الجُزر الإماراتية الثلاث، التي تتمسك الجمهورية الإيرانية بإحتلال تلك الجزر رغم كثرة التمني المتعدد الأصوات عليها بالجلاء عنها وترْكها لأصحاب الحق فيها.
ربما الذي يغري إيران في موضوع هذا الحقل ثروة الغاز التي تُحقق للدولة عوائد تخفف من وطأة الإلتزامات الثورية المتعددة الأذرع، وربما ترى في عوائد "الدرَّة" ورقة في جولات الأخذ والرد غير المحسومة في الشأن النووي، بمعنى أن تخفف الدول الأوروبية مسايرتها للإدارة الأميركية في موضوع العقوبات والأرصدة المحتجزة.
لكن أياً كانت الإعتبارات فإن عدم إنتهاج المرونة من جانب أهل الحكم الإيراني في موضوع حقل "الدرَّة" الذي ما زال في بداية المخاوف، من شأنه التأثير السلبي على أجواء وفاق خليجي _ إيراني ما زال طري العود.
ويحضرنا هنا للمناسبة ومن باب التذكير تلك الزيارة التي قام بها إلى إيران في مثل هذه الأيام (أول يونيو/حزيران) من العام 2014 أمير الكويت (الراحل) الشيخ صباح الأحمد الصباح وإرتياح أهل الحكم الإيرلني لهذه الزيارة وقول الشيخ صباح للرئيس حسن روحاني تدليلاً لصدق النوايا "إننا في الكويت نأمل بتعزيز الشراكة معكم". ولقد إستقرت هذه الشراكة إلى أن عكَّر الصفو توتر دبلوماسي عابر حدث إحتجاجاً على إحتضان الكويت "مؤتمراً للمعارضة الأخوازية وتقديم درع مجسَّم لمجلس الأمة لرئيس الوفد المترئس مؤتمر المعارضة تلك، وهو الدرع الأول يتم تقديمه من مجلس الأمة الكويتي المنتخَب منذ أيام. لكن بالحكمة والتفهم أمكن تجاوز الإشكال الذي لم يأت من الحكومة وإنما من برلمان مشاكس بطبعه. لعل ذلك يصيب الأزمة المحتملة الحدوث.. أزمة حقل الدرَّة".
في السياق نفسه تأخذ الخطوات المتدرجة بين مصر السيسي وتركيا أردوغان المنحى المشابه لخطوات الوفاق السعودي _ الإيراني. ومع أن التباعد الذي ساد العلاقة بين النظاميْن كان كثير التعقيد، إلا أن الأخذ بالتفهم من جهة وإنحسار الجنوح الأردوغاني نحو أدوار تمس سيادات دول أُخرى أهمها مصر فسوريا والعراق، جعل أسباب التباعد تتراجع.. إنما على قاعدة التأكد من نتائج إختبار النوايا. ثم جاء ترويضات الجماعات الإخوانية التي بدت على مدى خمس سنوات أردوغانية إستضافة ورعاية وإعاشة كما لو أنها "الجمهورية الإخوانية المستعادة"، ﻟ "جمهورية مصر العربية"، تشجع على مقابلة خطوة من جانب الرئيس أردوغان بمثيلة لها من جانب الرئيس عبدالفتاح السيسي. وهكذا خطوة تلي خطوة مع تأكيد للنوايا الطيبة إستؤنفت العلاقات الدبلوماسية على مستوى سفير بعد قطيعة دامت عشر سنين وربما يمهد تتويج حالة التوافق المستجدة لقمة مصرية _ تركية تتبادلها العاصمتان القاهرة وأنقرة. وباتت أبواب الدولتيْن سياحياً وتجارياً مفتوحة أمام مواطني البلديْن.. إنما لا يلغي ذلك بقاء الحذر المصري على درجة من اليقظة لأن تجربة التعامل مع "الإخوان" من مهجرهم التركي تتطلب على ما تؤكد الصدمات ذلك، التنبه في أقصى درجاته.
ولا ينحصر الأمر عند هذا الحد، ذلك أن إنشغال البال المصري من الإندفاع التركي في ليبيا ما زال قائماً وهو سيبقى في حالة التنبه إلى أن تتأكد مصر أن برنامج التعاطي الأردوغاني مع ليبيا قبل فوز الرئيس رجب بولاية رئاسية جديدة وأخيرة (إذا إقتنع) هو غيره ما بعد الفوز. بل من الجائز القول إن الهموم التركية الناشئة عن مضاعفات كارثة الزلزال من جهة والضنك الذي يواصل إخفاضاً في سعر الليرة مقابل الدولار من جراء سياسات إقتصادية تستوجب التصحيح، باتت أو هي في الطريق تتقدم على إهتمامات ما قبل ذلك، يوم كانت تركيا الملاذ والمعين لأطياف حزبية تروم إستعادة الحكم في مصر والإمساك بالإرادة السياسية في ليبيا. كما أن حالة صفاء مستجدة في العلاقة من جانب الإدارة الأميركية ودول الحلف الأطلسي يشكل إكتمال رسم اللوحة الجديدة لتركيا بطبعتها الأردوغانية.
خلاصة القول، إن العالم العربي بقطبيْه المصري والخليجي أمام حالتيْن غير محسومتيْن، وبحيث تسود الطمأنينة النفوس فلا يعكر الصفو تعكير متعمد من جانب معكِّرين. وأما الحسم فمن خلال إثراء قاعدة لا إغضاب... ولا غضب وإعتمادها خطاً ثابتاً للتعامل. مع الأخذ بالمثل السائد: القناعة كنز لا يفنى.. في المال والسُلطة.
فؤاد مطر