الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تأملات في الليل الحزبي.. وشمس الطمأنينة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
الثلاثاء 27/6/2023
ونحن نتأمل في القرر الذي إتخذه الرئيس رجب طيب أردوغان يوم الجمعة 9 مايو/أيار 2023 وقضى بتعيين الخبيرة الاقتصادية الشابة (مواليد إسطنبول 1982) حفيظة غاية أركان رئيسة ﻟ "البنك المركزي" وذلك بهدف إنتشال الليرة التركية من وهدة قاسية يكابد الشعب التركي تأثيراتها منذ أن ضرب الزلزال ضربته الماحقة، نشعر ببعض الأسى لما يعيشه البنك المركزي اللبناني منذ ثلاث سنوات وكيف أن أسوأ الكلام والإهانات رماها مسؤولون وقطاعات حزبية على رئيسه رياض سلامة زادت تفاعلات ووصلت إلى حد أن هذا المسؤول المالي الحساس بات برسم المطاردة والمحاكمة والتحقيقات الدولية معه وبات ممنوعاً من مغادرة بلده فضلاً عن مصادرة جواز سفره الفرنسي برسم التعليق. كما أن رئيس البنك المركزي هذا يواظب في عرينه المالي المسوَّر والذي حفلت جدرانه بكتابات مهينة لشخصه وبعضها يتجاوز الشتائم.
في تركيا صراعات سياسية وحزبية على مد الساحة العريضة وأشد ضراوة من الصراعات التي يشهدها لبنان، لكن الفرق بين السلوك السياسي والحزبي التركي وبين نظيره اللبناني أنهم في تركيا حريصون على وطنهم وإستقرار مؤسساتهم الدستورية والمالية وأهمها رئاسة الدولة ورئاسة البنك المركزي فيما نراهم في لبنان على درجة عالية من الإستهانة بالرئاستيْن، وإلاّ فما معنى التسويف في حسم أمر الإستحقاق المتعلق بممارسة واجب إنتخاب رئيس للجمهورية وإرتضاء فراغ طويل للكرسي الرئاسي من دون جالس عليه. وما معنى التهجم الممنهج وعلى قاعدة السوء بالرئاسة الأُخرى التي إستقرارها من إستقرار البلاد وطمأنينة العباد.
وفي السياق نفسه نقول إن ورقة مؤهلات وخبرة حفيظة غاية أركان وتخصصها في الولايات المتحدة بعد إسطنبول وثباتها على أن الجَني المعرفي والخبرة التي إكتسبتْها ليسا من أجْل خوض مغامرة الإثراء مستقبلاً، وإنما لإثبات الدور الذي يمكن من خلال ممارسة مداخله ومخارجه نيْل المنصب الذي تطمح إليه وتمارس الدور فيه بما يصون السمعة ولا يتجاوز حدوداً يتغلب فيها الطمع بالثورة إكتنازاً على حساب بريق السمعة.
مناسبة هذا الكلام أن رئيس البنك المركزي اللبناني رياض سلامة الذي سيغادر المنصب مجللاً بالإتهامات غير المحسوم أمر أحقيتها حتى إشعار آخر كما حال الإتهامات التي تربك تطلعات دونالد ترمب لخوض غمار رئاسة الولايات المتحدة، كان مؤهلاً لكي يكون الأوفر حظاً لترؤس الجمهورية على نحو ما حصل مع الياس سركيس (الراحل) الذي حرص في سنوات ترؤسه البنك المركزي أن يبقى في منأى عن الغرق في جشع المال ما دام يطَّلع بحكم مسؤولياته على ما تحويه التقارير التي تُرفع إليه من الإدارات المختصة في البنك المركزي من مليارات العملات بدءاً بالدولار والليرة ومن ألوف السبائك الذهبية التي تشكِّل الدعم والإستقرار والطمأنينة للوطن والشعب. كما بقي في منأى عن توظيف المنصب مع مؤسسات مصرفية وشركات تتاجر وبورصات تنحصر إهتماماتها بكل ما له علاقة بالشركات والإستثمار. ومثل هذا النأي من جانب الياس سركيس والإكتفاء بما هو عائد عليه كموظف في الدولة بمنصب حاكم البنك المركزي، كان بمثابة نقطة من جملة نقاط أُخرى في سجله لمصلحة القبول به من حيث المبدأ مرشحاً لرئاسة الجمهورية مع أنه لا حزب له ولا تيار ولا حركة. وحدها السلوكيات في شتى مناحيها مع الأخذ في الإعتبار الأمثولة التي إكتسبها من الجنرال فؤاد شهاب بعدما ترأس الجمهورية اللبنانية وهي رئاسة لم يسع إليها وإنما جاءته بفعل التوافق عليه مسجلاً أنه كان الرئيس العسكري الأول للجمهورية مفسحاً في المجال أمام إعتماد صيغة الجنرال الرئيس حلاً بالتراضي إنما على قاعدة الهوى السوري، وهذا ما عاشه لبنان مع أربعة جنرالات ترأسوا وهم بالتوالي إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، مع ملاحظة أن الأخير لم يتم ترئيسه كقائد للجيش إنتقالاً من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية وإنما كرئيس حزب عارض النظام السوري إلى أن إحتضنه هذا النظام من خلال إلتفاف "حزب الله" و "حركة أمل" أي الثنائي الشيعي حوله وإضطرار الثنائي الآخر في شخص رئيس الحكومة (زمنذاك) سعدالدين رفيق الحريري ورئيس "حزب القوات اللبنانية" سمير جعجع إلى التسليم بترؤسه الجمهورية. وتلك مرحلة إمتزجت فيها المبدئيات بالضغوط بالرهانات وأثمرت عوائدها خيبة شاملة ووضعاً بالغ التعقيد في الممارسة السياسية أوصلت لبنان الشعب والدولة إلى أنه بات في مهب التحديات التي لا تنتج رئاسة تضع الوطن على الصراط المستقيم، ولا تنقذ إقتصاداً بات على شفير الإنهيار، ولا شعوراً لدى الناس بأن ثمة بصيص أمل في أن الليل الحزبي والحركي والتياري والقواتي وما يستأويه من مئات الأحزاب الصغيرة والمعلبة وذات مشاعر طائفية ولا تخدم الوطن في شيء، لا بد سينجلي في المدى القريب وتعاود شمس الطمأنينة إشراقتها تغمر النفوس وتبدد أجواء التيئيس الممنهج. ولولا هذا الحرص المستجَد_ كما لم يُلاحظ من قبل في العلاقة بين دولتيْن_ من جانب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والحفاوة السياسية العفوية والصادقة بولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، لكانت ظلمة الليل اللبناني ستزداد سواداً. ولكن القمة السعودية _ الفرنسية بددت الكثير من تلك الظلمة ورسمت ملامح تفاؤل للبنان الذي يزداد ضموراً في شتى المناحي ومنها الخشية أن ينتهي العسف بأصول منصب الرئاسة، بأنه على موعد بما قد يبعث التفاؤل بالخير مع إنحسار متدرج للمماطلة وتصحيح الشوائب التي طُليت ودمغت بها سمعة البنك المركزي وذلك بإختيار من لا يضعف أمام كنز المال وبريق سبائك الذهب. ونقول إن القمة السعودية _ الفرنسية يوم الجمعة 16 يونيو 2023 التي تلت القمة بين البطريرك الراعي والرئيس ماكرون تشكل البلسم للمحنة التي يعيشها لبنان الوطن والشعب.. عدا الأكثرية من أهل السياسة والأحزاب والتيارات والحركات الذين عن ممارسة الواجب الوطني ساهون.
ولهذه التأملات في واقع الحال بقية كلام وإطلالات ومقاربات حول الليل الحزبي والتفاؤل بشمس الطمأنينة المرجأ عن سابق تصميم إلى حين إستنفاد الغرض. وكان الله في عون شعب يجازى ووطن لا يستحق مثل هذه الإستهانة به.
فؤاد مطر