الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

التغييرون يعتصمون ... وورثة أمثولة الإمام ساهون

الرجوع

نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 24/1/2023

جاز إفتراضي كما حال كثيرين عايشوا محنة السبعينات وما فعله العابثون من سياسيين وحزبيين وميليشياويين بلبنان الذين حولوا عاصمته بيروت المتباهية بدورها العلمي والثقافي والطبي والعمراني والتجاري والمصرفي إلى ساحة إحتراب وتدمير، أن النواب المنضوين تحت راية الثنائي الشيعي، سيبادرون لمجرد أن قرر أربعة نواب تغييرين الإعتصام يوم الخميس 9.1. 2023 داخل مبنى مجلس النواب كورقة ضغط لحمْل زملائهم ورئيس البرلمان على حسم إنتخاب رئيس الجمهورية إلى أن يكونوا مؤازرين بعدما لم يكونوا سبَّاقين ... لكن ما خطر في البال لم يتحقق وإستمر النواب الأربعة على إعتصامهم يتعاطف معهم البعض من زملائهم من دون تفعيل قوي لمشاعر التعاطف بمعنى أنهم لم ينضموا إليهم وبقي ملحم خلف ونجاة صليبا وفراس حمدان وسينتيا زرازير في قاعة "السجن البرلماني" وعلى العتمة مع إطفاء التيار الكهربائي بعد الظهر! هذا ما قالوه غير نادمين.

جاء إعتصام النواب الأربعة بعدما كانت الجلسة التي يعقدها البرلمان بغرض وطني بإمتياز هو إنتخاب رئيس للجمهورية سجلت الرقم 11 ومن دون أن تصدر عن الجلسات العشر السابقة أي تباشير، بل إنه بدل أن يمارس النواب الواجب الذي من مقتضياته عند إنتهاء عهد رئاسي المبادرة وعلى نحو ما ينص عليه الدستور إنتخاب رئيس جديد وبحيث لا يحدث فراغ ويبقى الوطن ضمن دائرة الأوطان المحترمة، فإن التأجيل أفرز عقْد إحدى عشرة جلسة ولا بشائر طيبة.

لم يمهد الرباعي البرلماني للخطوة التي أقدم عليها. نفَّذها بصيغة المباغتة بما يعني أن رئيس البرلمان نبيه بري لابد إمتعض ليس فقط بفعل عدم التشاور معه، وإنما لأنه بصفته الحزبية رئيساً ﻟ "حركة أمل" يرى أن مثل هذه القذيفة التي تستهدف الإحتجاج والضغط معاً، هي تراث محسوب على الحركة التي بات وريث زعامتها. وما نقصده بالتراث هو أننا عشنا في السبعينات ما أشرنا إليه مطلع هذا المقال حيث أن الإمام موسى الصدر كان يرصد ما يحدث منذ إندلاع شرارة يوم الأحد 4.13. 1975 بإستهداف مدبَّر لأحد "الأوتوبيسات" كان يُقل عدداً من الفلسطينيين الآتين من إحتفالية وطنية ثورية في طريقهم إلى مخيم "تل الزعتر" المخصص _ كما مخيمات أُخرى شملت جميع المحافظات_ منذ لجوئهم إلى لبنان لسكناهم بموجب إتفاق موثق رسمياً وبموافقة كهنوتية (كون المنطقة مسيحية). ولقد رأى في ضوء هذا الرصد أن لبنان الذي جاءه بغرض تعزيز شأن الطائفة الشيعية، وتوحيد جناحيْه (الجنوبي والبعلبكي) بات على مقربة من الهاوية نتيجة الصراعات السياسية التي أسست إحترابات وميليشيات ودخول أغراب على الميدان، وهذا مآله ضياع صيغة التوازن الطوائفي. ولقد بذل من السعي لإبقاء لبنان وعاصمته بالذات بعيدة عن اللهب الطائفي والحزبي ووقف خطيباً ذات مناسبة من على منبر كنيسة. وعندما قوبل السعي بالخذلان فإنه إستحضر الصيغة الغاندية لمواجهة الموقف إنما بنكهة غير هندوسية. قرر الإعتصام وودع والدته وزوجته وأبناءه وحمل بيده حقيبة فيها حاجياته وفي اليد الأُخرى عباءته وطلب من أربعة من المساعدين التوجه برفقته. إلى أين؟ لم يحدد... إلى أن وجد هؤلاء أنفسهم في رحاب مسجد الكلية العاملية التي كانت ملاذ الطائفة الشيعية في المناسبات الوطنية والأيام العاشورائية ومن قبل أن تنشأ ملاذات الضاحية الجنوبية على أيدي رموز "حزب الله" وقادة علمائيين آخرين أبرزهم محمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين.

الإعتصام الذي لم يحظَ بالتفعيل وبالتالي لم يلقَ التفاعل المطلوب ونعني به إعتصام النواب الأربعة لقيه الإعتصام الصدري قبل 48 سنة. فقد أحدث بداية ما يشبه الصدمة الإيجابية وإلى درجة أن رئيس الجمهورية الذي تمحورت المواجهات حول ضرورة إستقالته ومن قبل إنتهاء مدة الولاية، ونعني بذلك الرئيس (الراحل) سليمان فرنجية قال عندما بلغه نبأ الإعتصام "إني أعتبر أن قرار الإمام موسى الصدر هو إنقاذ للبنان.." وإلى ذلك فإنه عندما يكون القطب الماروني المحترم ريمون اده (رحمة الله عليه) من القلة التي لم تشارك في المواجهة المسيحية المسلحة ومن دون أن يتخلى عن تحفظاته على التنازلات اللبنانية للمقاومة الفلسطينية مما شكَّل ذلك حطباً على الجمر، وجاء إلى مجلس الصدر المعتصم مؤازراً خطوته، فهذا دليل على صوابية الخيار الصدري للإحتجاج والضغط السلمي. ومع أن المفاعيل تباطأت وتأخرت إلاّ أن بصمة ذلك الإعتصام أخذت مكانها في كتاب الحَراك العربي _ الدولي لاحقاً لتحقيق تسوية أدت بعد عشر سنين صبغ الدم الكثير من أيامها إلى التسوية المتمثلة ﺒ "إتفاق الطائف" الذي بدل أن يرعاه أبناء وأحفاد الحرب في السبعينات نراهم بعد ثماني وأريعين سنة غير مكترثين بهذا التراث الإحتجاجي، مرغمين على ذلك إلتزاماً بمقتضيات جوهر الثنائية، أو لإن لكل زعامة رؤيتها وظروفها وزمانها وأن ما كان يراه رمز "حركة أمل" ماضياً ليس بالضرورة أن يراه رمزها الوارث، ولو كان من الرؤى إياها لكان طلب من نواب الحركة المشاركة كما نسَّق في الوقت نفسه مع نواب الشريك الشيعي الآخر (حزب الله) لكي ينضم نوابه إلى نواب "أمل" ويحوِّلوا الإعتصام إلى أداة ضغط، أو فلنقل إعادة نظر تجعل العسير من الأمور على درجة من اليسر الذي ينهي ظاهرة جلسات تأخير إنتخاب رئيس الجمهورية التي هي على أهبة التبعثر.

عندما إرتأى الإمام موسى الصدر إشهار ورقة الإعتصام في مسجد وليس في أحد الحصون، فإنه أوجز الدواعي الموجبة وهو جالس في أحد زوايا المسجد بعبارة "طوال يوم الخميس وليله كنت أتلقى شكاوى الرجال وأسمع بكاء الأرامل واليتامى. وعلى رغم أنني سعيت جهدي ولم أذق طعم النوم فإن القصف لم يهدأ والأوضاع تزداد سوءاً فقررتُ في الثانية بعد ظهر اليوم أن أعتصم وأصوم حتى الشهادة أو حتى تعود البلاد إلى حالها الطبيعية. وقد ودعتُ والدتي وزوجتي وأطفالي وجئتُ أُصلي إلى الله أن ينقذ هذا الوطن...". ثم أضاف وهو يستقبل ريمون اده في مجلسه حيث يفترش الأرض وجمعاً من عقلاء الوطن "لا أستطيع وأنا في اليوم الثالث من إعتصامي الإفاضة في الكلام ولكننا لم نقْبل بأن يشترك في الحكومة مَن هم مهتمون بالمسؤولية عن الأحداث ونطالب بمحاكمة المتسببين بها أياً كانوا ويجب أن يكشف التحقيق ذلك بكل وضوح. إن صَلاتنا أقوى من جرائمهم ومآثمهم وصيامنا أقوى من تعطشهم إلى الدم وسنستمر في مسيرتنا وهي أقوى من كل سلاح...". يا ليت يقال مثل هذا الكلام بالنسبة إلى جريمة المرفأ التي أيقظ السعي من أجْل كشف ما يمكن كشْفه من خباياها القاضي طارق البيطار، فيما الإعتصام الرباعي على حاله من الصمود.

قد لا يكون الإعتصام الصدري حسم الأمور على الفور بدليل أن الكر والفر والتحفيزات المخابراتية السورية وغيرها نشطت ومن مفاعيلها عملية خطف مثيرة إستهدفت وليد جنبلاط لبعض الوقت ثم يعيده الأخوان دوري وداني كميل شمعون. ها هو أبو تيمور بات بعد أربعة عقود يمسك راهناً بأحد مفتاحيْ الحل الحاسم وتسهيل أمر إنتخاب رئيس الجمهورية. لكن الإعتصام حمل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على أن يتلبنن بعض الشيء ويقول في فقرات من بيان تاريخي أصدره (يوم الأربعاء 6.25. 1975) من مقره الرئاسي في محلة الفاكهاني إحدى قلاع "الضاحية السُنية" (طريق الجديدة) التي باتت إحدى القلاع الحريرية "إن الثورة الفلسطينية تحترم السيادة اللبنانية ولا رأي لها في ما يرتضيه لبنان لنفسه نظاماً وإقتصاداً سوى التمني له الإزدهار المطرد والمزيد من الفلاح والتوثيق. كما إن المقاومة الفلسطينية في لبنان ليست فئة سياسية تنتمي إلى هذه الجهة أو تلك ولا تريد أن تكون كذلك. كما أن إستقرار لبنان وطمأنينته هو إستقرار الثورة الفلسطينية وطمأنينتها...".

يطول الكلام في الموضوع اللبناني _ الفلسطيني التي كانت المقاومة وجوداً مسلحاً حتى في المقاهي. لكن السؤال: هل تبدَّل الحال بعدما أخذ الدور الإيراني المجال مضاعفاً قياساً بالذي أخذه الوجود الفلسطيني، والذي برغم ترحيله بحراً وبراً وجواً لم تطو صفحة الحضور المسلح الغريب في الحياة اللبنانية والذي يشكل عدم إستقرار فضلاً عن إرتباك في حسم الأمور السيادية ومنها إنتخاب رئيس جديد للجمهورية عندما تنتهي الولاية. وهذا حصل على مدى خمسة رؤساء ماضين ويتكرر راهناً حدوثه وبشكل أكثر تعقيداً. وكان في الإمكان تخفيف نسبة التعقيد لو أن هامش الضغط لإنجاز الأمور كان أكثر فعالية لكن الأمر إنتهى جلسات إنتخاب لا تتسم بالجدية والإحساس بالمسؤولية الوطنية... وهذا لأن بعض نواب التغيير هم الذين يعتصمون وأن النواب ورثة رمز أمثولة الإعتصام الإمام موسى الصدر عن إحياء الأمثولة هم ساهون.. أو حتى المشاركة في مَن بادر.

وفي إنتظار نتائج جولة الترويض المتبادَل من جانب حزب الله وجبران باسيل، وكذلك أعجوبة الخطة ب والتي بشَّر بها عبْر "الشرق الأوسط" وسيط التجارب التصالحية غير الثابتة الوزير السابق ملحم الرياشي مطلع هذا الشهر (يناير) وقال إنها ستعلن أواخر الشهر وعلى أساس أنها الحل لمسألة لأم الإستعصاءات السياسية اللبنانية: إنتخاب رئيس الجمهورية... إننا في إنتظار النتائج والأعجوبة ندعو رب العالمين كي ينير القلوب ويشرح الصدور فتتيسر الأمور.

فؤاد مطر