الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

شاطئ جديد للسفينة الفلسطينية الحائرة

الرجوع

نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 18/10/2022

تحت تأثير حالة إحباط إستقرت في النفس العربية عموماً وفي النفس الفلسطينية بوجه خاص، ناشئة عن أن فلسطين تتراجع كقضية وباتت مجرد موضوع من الموضوعات العالقة المرجأ حسم أمرها، جاءت المحاولة الجزائرية التي إستهدفت تحقيق مصالحة فلسطينية تنشر القليل من التفاؤل في مواجهة ما يعيشه الزمان العربي الحافل بالصدمات والكوابيس والرهانات غير المتناسبة مع التوقعات حتى بين الذين تجمعهم صداقات تاريخية. ولنا في إفتعال بعض الأوساط الإستفزازية في "اللوبي الديمقراطي الأميركي" المثال على ذلك. وإذا جاز تشخيص الدوافع من جانب أعضاء فيه لرأينا أن في الجو بداية غيوم بايدينية تتحسس من الإنطلاقة النوعية في إتجاه إكتمال عملية تطوير وعلى قواعد علمية تشهدها المملكة العربية السعودية ودول الخليج عموماً، ويتم ذلك على عكس ما تراه السياسة الأميركية بمعنى أن الشأن الأميركي يجد قبولاً له في حال أن الدولة غير متقدمة لا تجاري العصر ومنطلقة في عملية تطوير نوعية. ثم تكتشف تلك السياسة، وتحديداً بعض المنظرين فيها أن الذي يطور يملك إرادة صلبة إضافة إلى فضاء رحب من العلاقات الإستراتيجية مع دول كبرى كثيرة تقدر مسار سياسته ورؤاه في مسألة التعامل وأنه كلما إزداد تطويراً كلما تراجعت الحاجة التقليدية إلى مَن يذود عنه في ساعة الحاجة إلى الذود. ولذا فمن مصلحة الذين إعتادوا على مكاسب علاقة إستثنائية أن تنتابهم الخشية حتى إذا كانت حقاً طبيعياً ومن الثوابت يمارسه الصديق الحليف وفق رؤاه متكلاً في ما يمارس على ثقة في النفس وثقة مضافة به من بني قومه.

كابدت الرئاسة الجزائرية الكثير من أجل الإنجاز الفلسطيني الذي لا يخرج عن كونه محاولة تأتي بعد محاولة أكثر أهمية. في البداية حدثت لقاءات لقيادات فلسطينية في الجزائر تزامنت مع إتساع مساحة التطبيع من جانب بعض الدول العربية مع إسرائيل. إرتأت الجزائر التي هي على موعد مع القمة العربية الدورية أن تؤدي دوراً تراه واجباً يمارسه الرئيس عبدالمجيد تبون ويكون من نوعية أدوار سبق أن أداها الرئيس (الراحل) هواري بومديْن أو الذي كان في زمنه شريكاً في صياغة هذا الدور، بدءاً بما حققته دبلوماسية هذا الشريك عبدالعزيز بوتفليقة في القمة العربية الإستثنائية في الخرطوم (سبتمبر 1967) وبما حققه هو شخصياً خلال حرب مصر السادات عام 1973 ومثل ذلك في حرب عبدالناصر عام 1967.

الذي إرتآه الرئيس عبدالمجيد تبون هو السعي لإستعادة سوريا حضورها في القمة ومنه تستعيد سيادتها بأمل إستعادة مكانها ودورها وعندما لم يثمر سعيه هذا إرتأى أن تجرب الجزائر ما سبق أن كانت المملكة العربية السعودية أيام قيادة الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمة الله عليه) قامت به وتمثَّل بدور سيبقى على فرادة غير مطروقة في دنيا محاولات لتحقيق المصالحات. ففي ذروة الخلاف السياسي بين "فتح" و "حماس" وبعد التشاور مع المملكة العربية السعودية إلتقت القيادتان الفلسطينيتان في مكة المكرمة من 6 إلى 8 فبراير/شباط 2007. وأثمر الحرص على القضية إتفاقاً باركت المملكة مضامينه وبثت الفضائيات مشهد لقاء تاريخي بدا فيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز محاطاً بالقادة الفلسطينيين (فتح وحماس) مجدداً أمامهم إلى جانب التمنيات بالثبات على ما تم الإتفاق حوله القول "لا تضيِّعونا وتضيِّعوا أنفسكم يا إخواننا أبناء القضية الفلسطينية...".

غادر الركب الفلسطيني وقد وصل الإبتهاج في الديار المحتلة والمخيمات في دول عربية وحيث هنالك فلسطينيون في بلاد الإغتراب إلى حد ذرف الدموع فرحاً وبالذات عند سماعهم أو قراءاتهم كلام خالد مشعل قائلاً بإسم "حماس" التي باتت رقماً صعباً في المعادلة وبالذات للعلاقة الوطيدة له وللحركة مع الرئيس بشّار الأسد "إلى الذين يتخوفون ويقلقون من أن تعود الأمور إلى الوراء أقول إننا عاهدْنا الله وعاهدْنا الأمة من هذه الأرض المقدسة أن الإلتزام بهذا الإتفاق سيكون كاملاً...".

مع كثير الأسف لم يصمد التفاهم. وسنة بعد سنة وصل إلى مشارف العداوة وتعززت سياسة الإلتحاق أحياناً بالإيراني وأحياناً بالتركي على حساب العربي، مع أن الجانبيْن قرءا الفاتحة في لقاء مكة. دخلت إيران على الخط بإجتهادات وإغراءات إنتهت إلى أن حركة "حماس" غدت ضيفاً على المجموعة الممانعة، ومن دون أن يتوقف النصح السعودي الذي تمثَّل لاحقاً ببرقية بعد سنتيْن من الملك عبدالله إلى "فتح" لكي تسمع مضمونها "حماس" وسائر الفصائل الفلسطينية هي الأولى من نوعها حيث جاءت في حدود خمسمئة كلمة متضمنة في ثناياها الكثير من النصح والتحذير مثل قوله "لو أجمع العالم كله على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ولو حشد لها كل وسائل الدعم والمساندة لما قامت هذه الدولة والبيت الفلسطيني منقسم على نفسه شِيعاً وطوائف كل حزب بما لديها فرحون. إن العدو المتكبر المجرم لم يستطع عبْر سنوات طويلة من العدوان المستمر أن يُلحق من الأذى بالقضية الفلسطينية ما ألحقه الفلسطينيون أنفسهم بقضيتهم من أذى في شهور قليلة...".

خلاصة القول إن السعي الجزائري الذي جاء أيضاً على خلفية سعي مصري تولاه الرئيس عبدالفتاح السيسي وتواصل لقاءات وزيارات على المستوى الدبلوماسي والمخابراتي، يحقق المبتغى في حال قرر رموز الموضوع الفلسطيني أن يكونوا فلسطينيين أولاً وثانياً وآخراً وأن يجربوا صيغة الصف الواحد. وبذلك ترسو السفينة الفلسطينية الحائرة كونها تصارع الأمواج بأكثر من قبطان على شاطئ الأمان. وفي حال كُتب للمبادرة الجزائرية ﺒ "مؤتمر لم الشمل من أجْل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية"، فإن هذا الإنجاز خير وبركة وتعويض على خمس عشرة سنة من الضياع والتضييع.

نقول ذلك على أساس أن الإلتزام بإتفاق مكة عام 2007 من خلال أجوائه الروحانية خصوصاً أن الطرفيْن أقسما اليمين على التنفيذ، كان من شأنه أن يكون الصف الفلسطيني غير مشتت على ما هي حاله طوال أربع عشرة سنة تلت ذلك الاتفاق، وكانت تصريحات الرئيس بايدن ورئيس وزراء إسرائيل لبيد من نوع "يستحق الشعب الفلسطيني أن تكون له دولة" لا تعود مثل فقاعات تتطاير في الهواء، كما لا تعود وقفة الرئيس الفلسطيني محمود عباس من على منبر الأمم المتحدة قبل أيام وقفة مَن يستعطي وإنما مَن يتحدث من موقع قوة، ثم يباغته لاحقاً الرئيس بايدن بعتب الغاضب على لقائه بالرئيس بوتين وكأنما للرئيس الغاضب في ذمة الرئاسة الفلسطينية موقف متقدم لمصلحة القضية التي لو أرادت أميركا حلاً عادلاً لها لما كان هذا التعسير المتواصل لها.

لعل المبادرة الجزائرية تشق طريقها نحو الثبات وتلقى من القمة العربية الدورية "قمة فلسطين" بتسمية الجزائر لها، بعد أيام ما من شأنه تحقيق المزيد من التدعيم لصيغة المبادرة العربية التي لا يعود هنالك مبرر للإدارة الأميركية على التعامل معها من خلال مواقف باهتة يتم التعبير عنها بمفردات يبدو مفعولها أشبه بعلاج غير فعَّال بقرارات حاسمة وليس بعبارات غير ذي جدوى لخمسة وسبعين عاماً من الظلم وبات لا بد من التكفير عن الذنوب. والله الحق والتوَّاب.

فؤاد مطر