الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

حزن بكل صدق.. وإنتظار إنصراف بفارغ الصبر

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأحد 18/9/2022

هنالك ظاهرتان لافتتان في المشهد السياسي الراهن وتشكلان لمن يحكمون راهناً أو يحلمون بالسلطة لاحقاً. الظاهرة الأُولى متصلة بعهد الرئيس ميشال عون ولم تك معالمها بهذه الحدة في عهود العشرة الذين سبقوه كما في العهديْن اللذين قُضي عليهما تفجيراً منذ أن أديا القسم وهما الرئيسان رينيه معوض والرئيس بشير الجميّل.

في عهود العشرة السابقون بدءاً بالرئيس بشارة الخوري فالذين خلفوه (كميل شمعون، الجنرال فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، أمين الجميل، الياس سركيس، الياس الهراوي، الجنرال إميل لحود، الجنرال ميشال سليمان) لم يحدث أن رئيس البلاد بات موضع شتائم وسخرية من جانب الناس كما الذي حدث مع الرئيس الجنرال عون.

في تلك العهود كانت عبارات النقد لهذا الرئيس أو ذاك بالغة القساوة إلا أن المواطنين كانوا عموماً في منأى عن رمي الرئيس بالنقد، وهذا لا يعني أن أحاديث مجالس الناس لم تشهد من النقد لأهل السلطة من أعلاها إلى سفحها اللاذع من العبارات، إنما ضمن أصول التعبير وإحترام ما يتعلق بالخصوصيات. وحيث أن وسائل الإعلام كانت الصحف إضافة إلى محطة الإذاعة ثم لاحقاً محطة التلفزيون وكلتاهما رسميتان، فإن تعميم المواقف يخضع إلى ما لا يتخطى الحدود والأصول وإحترام المقامات.

في عهد الرئيس ميشال عون حدث ما لم يحدث من جانب الناس وبالذات تلك الأطياف المكتوية بتداعيات الإخفاقات. وحيث أن وسائل التواصل الإلكتروني المتوفرة عموماً لدى الجميع ونادراً ما تجد مواطناً أو مواطنة لا يملكون "الموبيل" هذا إلى جانب المستحدثات من مواقع تتيح لأصحابها بث الكلام على نحو ما يريدون من دون التوقف عند أصول التخاطب، فإن ما بدأ يقال عن العهد رئيساً وحاشيات شكَّل ظاهرة عزز بشاعتها ما كان يُكتب على جدران المباني في المنطقة التجارية من العاصمة التي تم إستحداثها خلال ست سنوات حريرية وبدا الإستحداث العصري وكأنما هذه المنطقة توأم أزهى المناطق التجارية في لندن وباريس ونيويورك والرياض ودبي.

في بداية الأمر قيل إن هذه الكتابات التي تنضح إهانة شخصية وعامة لرئيس البلاد ولمَن حوله هي من فعل غلاة الثوريين والشيوعيين، إلاّ أن ما كان يقال ويُبث صوراً ورسوماً وأغاني مركّبة وأشعاراً من خلال رسائل التواصل الاجتماعي، كان يعكس إنطباعاً بأن البغضاء تجاه رئيس البلاد لا تقتصر على قلة وإنما تشمل حتى أولئك المندرجين في بند التحزب لرئيس البلاد، وهذا عائد إلى ضيق العيش فضلاً عن الضيق من التحالفات السياسية وما يتسبب به العهد من أذى للبنان المقيم وللبنان المغترب في الدول العربية من تأثير على حياته العملية ومحيطه الاجتماعي.

رغم ذلك كانت ظاهرة الكلام عن العهد وعن الرئيس والحاشيات على أنواعها لا تلقى وقفة تأمل من جانب الرئيس. بطبيعة الحال ليس لأنه ديمقراطي ويحترم الرأي لدى الآخر أو الآخرين عِلْماً أنه كعسكري ليس كذلك من حيث المبدأ، كما لم يكن كذلك وهو رئيس حزب بدليل أنه أورثه تعييناً لمن إصطفاه، وبما يعني أنه لم يترك الأمر في عهدة عملية إنتخاب ديمقراطي لا تتأثر بسلطته المستجدة كرئيس للجمهورية. وأما لماذا لم تحدث وقفة التأمل المشار إليها فلأن وقائع ما كان السبب في الكلام المسيء في حق الرئيس شاهدة على ما أحدثه العهد وكيف أن الدولة تفقد مقوماتها إضافة إلى أن أساسات خصوصية الوطن بدأت تهتز. وإزاء ذلك ليس أمامه إلاَّ الإنتفاض على الذات وعلى التحالفات وعلى الحاشية وعلى الذين من حوله وإعادة النظر في حظوة الأقربين والظهور بما بقي من مدة العهد بمظهر المصلح. لكه لم يفعل وربما لا يريد، وبقي أسير رئاسة باتت قفصاً فقد بريق أهمية مَن فيه ولمعان ذهبه.

ربما تحدُث صحوة مفاجئة ويقرر الرئيس عون إفتعال مناسبة يُلقي فيها خطبة وداع يعتذر في بعض عباراتها عن ظلم وتظليم ألحقه عهده بالشعب اللبناني، ومن الأطراف العربية التي أسيء لها في سنوات رئاسته. وإن هو فعل ذلك فسيلقى التفهم الدولي والعربي كما الثناء ومن الشعب اللبناني الصفح شبه الجميل.

تلك إضاءة عابرة على الظاهرة الأولى لكن الظاهرة العونية التي دونت في تاريخ الأحوال السياسية والحزبية كأكثر التحالفات غرابة والمتمثلة بتحالف أكثرية تمثل الشيعة مع تمثيل لبعض الطائفة المارونية. ووجه الغرابة أن الحليف الأول (حزب الله) مقاوم ومسلح والثاني (التيار الوطني الحر) غير مؤمن بالمقاومة ولا سلاح لديه. ولكن حبات عقد هذا التحالف إلى إنفراط وارد الإحتمال لمجرد إنصراف الجنرال ميشال عون.

أما الظاهرة الثانية فتتمثل بالنصح الأسبوعي وأحياناً في مناسبات من جانب امرأة شاءت الأقدار أن تكون ملكة مملكة متعددة الدول، أي على نحو ما هو عليه مجلس التعاون الخليجي، وهي في بداية سن الشباب فتاة في السادسة والعشرين ورثت عرش والدها من دون أن تتوقع ذلك.. ولكنها الأقدار.

وطوال سنوات تاجيتها السبعين زوجة وأماً عاشت حريصة أن تكون ملكة الشعب بكل أطيافه وليست ملكة عائلتها فوضعت كل أمير أو أميرة ضمن حدود تمارس على كل منهم من النصح ومن التحذير ومن الإجراءات ما يبقي التاج والرأس الذي عليه هذا التاج في مدار إحترام الشعب. وفي السياق نفسه كان التواضع أحد شمائلها الكثيرة كما كانت إبتسامتها عند مناسبة أو خلال زيارة تبعث في نفوس الناس وبالذات في أزمان الأزمات، وما أكثرها، إرتياحاً ما بعده إرتياح. كان الصدق حليفها وبشكل خاص عند الحزن على رحيل رفيق عمرها فيليب.

باتت اليزابيت الثانية الأم الفخرية لعشرات الألوف من الأحفاد المزدوجي الجنسية من العربي إلى الباكستاني إلى الهندي إلى الأفريقي. هؤلاء وعلى مدى سبعين سنة اليزابيتية ولدوا في بريطانيا التي إحتضنت الأجداد فالآباء الذين وجدوا فيها ما لم يجدوه في دولهم وهؤلاء إكتسبوا الجنسية وصدحوا مع رفاقهم الإنكليز في مدارس بريطانية النشيد الوطني وقالوا كما أهاليهم بكل عفوية وصدق "حفظ الله الملكة". ولا بد أن اليزابيت الثانية كانت تشعر بذلك، فلطالما أوصت أن من دخل بيت المملكة المتحدة، ونقصد بذلك بيت اليزابيت الثانية إبنة جورج السادس الذي تُوفي في سن مبكرة، يكون آمناً ومستقراً ما دام يحترم الأصول والواجبات بدءاً بالأمن فالضريبة شأنه في ذلك شأن البريطاني. ولو أعطى المرء بعض التأمل لخارطة المجتمع البريطاني على مدى السنوات الاليزابيتية السبعين لرأى كم بلغ مدى حصول جيل أبناء وأحفاد من سائر أقطار العالم الثالث باتوا حاصلين على طمأنينة مغيَّبة في بلاد الأجداد، وإستقرار لا يحققه الذين يترأسون أو يتم ترئيسهم وفي معزل عن الإرادة الشعبية، ولوجد التفسير لهذا الحزن العفوي على رحيل اليزابيت الثانية. وعندما تجد سيدات عربيات ومسلمات يسارعن عند إعلان نبأ الرحيل إلى قراءة سورة الفاتحة على روح الملكة التي حققت لهنَّ ولأبنائهنَّ وبناتهنَّ ولكوكبة من الأحفاد ما لم يتحقق لهم في لبنان أو الهند أو السودان أو العراق أو فلسطين أو مصر أو باكستان أو في معظم دول القارة الأفريقية، فإن هذا يعكس عمق الظاهرة الثانية التي أشرنا إليها بداية مقالنا هذا مقارنة بالظاهرة الأولى حيث أطياف الشعب في لبنان حتى البعض المستتر في الإفصاح عما يجول في خاطره، تحصي بالدقائق المدة المتبقية لرحيل رئيس وعدهم بالجهنم وقد كان حريصاً طوال السنوات الست العجاف على تفعيل هذا الوعد.. تماماً كما حرص جايمس بيكر وزير خارجية أميركا بوش الأب على وعده ﻟ طارق عزيز وبرزان التكريتي معاً خلال جلسة محادثات جرت في جنيف بأن أميركا البوشية يمكنها أن تعيد العراق إلى العصر الحجري. وعملياً فإن بعض ملامح الحال الجهنمية في لبنان تبدو توأم ملامح الحال الحجرية في العراق.

حزن دفين بمستويات دولية على ملكة بريطانيا التي كان التحسر عليها كما لو أنها ليست في السادسة والتسعين ولم تحمل التاج بكل الإعتزاز يليق بها وتليق به طوال سبعين سنة. وهذا حزن عفوي على مَن هم من الصالحين والمصلحين. وإستعجال شعبي ما بعده إستعجال لإنصراف الرئيس في لبنان لأنه إنشغل طوال ست سنوات بالحاشية ونشر الحذر العربي والدولي والفاتيكاني من لبنان، نقيض ما عايشناه في سنوات ملكة بريطانيا التي إعتبرت أفراد العائلة جزءاً من المجتمع ينطبق عليهم إصلاحاً وتأديباً ما ينطبق على سائر الناس. وبذلك أرضت الشعب بعد ربها. ورحلت فيما أمثولاتها على الصعيد البريطاني والدولي تأخذ مكانها في التاريخ.

... ورحمة الله على الملك عبدالعزيز بادىء كتابة الأمثولات في العالم العربي والتي الحرص على الشعب والعدل والغوث أبرز عناوينها، وبالذات عنوان اليوم الوطني للمملكة الذي ذكراه اﻟ 92 بعد أيام والتي يحتفل بها الشعب السعودي المحظوظ بقيادة تستلهم تلك الأمثولات ومعه شعوب عربية وإسلامية هدَّأت من روعها كوارث ألمت بدولها، من خلال إغاثات خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان الذي ينام على خطة برسم الإستحداث ويصحو على خطة قاربت الإنجاز. والله المعين والهادي.

فؤاد مطر