الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

إشكالات اللجوء الأوكراني بعد الفلسطيني

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 6 أبريل/نيسان 2022

 

ما تسببت به بريطانيا من أذى في الأربعينيات في فلسطين لجهة غضْ الطرْف عن أفعال عصابات الحركة الصهيونية أمثال "شتيرن" و"الهاغاناه" في حق العائلات الفلسطينية، ها هي في هذه الأيام الروسية _ الأوكرانية تعيش في ظل متاعب مثل ذلك الأذى.

 في الزمن الذي مضى، إعتبرت بريطانيا ذلك الأذى عنباً قطف دواليه اللورد آرثر روتشيلد في صيغة وعد أقنع بجدواه الملك جورج الخامس. وها هي بريطانيا في ظل إبنته الملكة اليزابيت الثانية تدفع ثمنه أو فلنقل تأكل حصْرمه.

زيادة في التوضيح نشير إلى أن بريطانيا وهبت أرضاً تحتلها وفي صيغة وعْد ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 نقلها أرثر البريطاني (أرثر بلفور) إلى أرثر الصهيوني زعيم الحركة الصهيونية (اللورد أرثر روتشيلد). وعند التمعن في صياغة الرسالة البلفورية نرى أن صاحب الوعد فخور بما فعله غير مكترث بما يمكن أن يستتبع ذلك من خطوات، أو إنه كان يدري وتلك مصيبة أعظم ستبقى ندبة في الجبين البريطاني.. إلاَّ إذا كانت الملكة اليزابيت الثانية سترى وهي ما زالت في كامل صفاء الذهن في شيخوختها الوقورة والحكيمة، وفي ضوء معاناة مماثلة للمعاناة الفلسطينية الناشئة عن وعد بلفور ونعني بذلك معاناة اللجوء الأوكراني صفو اللجوء الفلسطيني عام 1949 إلى بعض الدول العربية وغيرها، سترى تصحيحا ًللوعد البلفوري من خلال الرئيس بوريس جونسون أو غيره في موقع صياغة القرار الحكومي وإتخاذه.

مناسبة إستحضار هذه المحنة أن الحكومة البريطانية التي يترأسها بوريس جونسون تصطف إلى جانب إدارة الرئيس جو بايدن في التصدي لما باغت الرئيس فلاديمير بوتين العالم به محرجاُ أشد الإحراج الدول الأوروبية قبل غيرها. وبالإضافة إلى الشحن المكثف من جانب وسائل الإعلام بكافة مطبوعاته وقنواته فإن الحكومة التي إرتاحت لبضعة أشهر تلت خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، من وطأة عشرات الألوف الأوروبيين الشرقيين عموماً الباحثين فيها عن وظائف وفرص عمل وبما يساهم في حالة نضوب مالي متقطع في جزئية من ميزانية الدولة فضلاً عن خلل في موجبات ومستلزمات الطبابة لهؤلاء، وجدت نفسها أمام حالة مخيفة من اللجوء الأوكراني إليها. فقد بدأت عائلات بكاملها تصل إلى الكنف البريطاني وبطبيعة الحال لا يمكن صدْها. بهذا عاشت بريطانيا ولا تزال الظروف التي سبق أن عاشتها بعض الدول العربية عندما بدأ تدفُّق اللجوء الفلسطيني إليها نتيجة أفعال العصابات الصهيونية التي قوننت إجرامها من خلال قاعدة "لم نسمع لم نر" سُلطات الإحتلال البريطاني لفلسطين.

تماماً كالذي يحدث منذ أيام في بريطانيا حدث في لبنان قبل 72 سنة. على متن قوارب وسفن صغيرة وعبْر الحدود تمت عملية اللجوء الفلسطيني إلى الملاذ اللبناني. وحيث أن المشاعر الإنسانية والوطنية والقومية كانت في أحسن حال زمنذاك، فإن الفلسطينيين الآتين من الوطن الذي بدأت عملية وضْع اليد عليه بفعل الوعد البريطاني إياه، حلوا في البداية ضيوفاً على أهل وأنساب ثم بدأت عملية إنشاء المخيمات لهم في مناطق مختلفة من العاصمة والضواحي وبعض المحافظات. وهذا إلى أن يُحسم أمر عودتهم على أساس أن دول العالم لن ترتضي أسلوب إغتصاب أوطان الآخرين. طال الإنتظار وكثرت الوعود. ثم شيئاً فشيئاً بدأت حالة اللاجىء المستوطِن المتحزب ثم اللاجىء المسلح ثم اللاجىء المتدخل في شؤون داخلية. بقية فصول المحنة مأساوية بإمتياز، بل إن بعضها يُدمي القلب ويُدمع. عند التأمل في المشهد اللبناني منذ فلسطينية الحال سلاحاً وتدخلاً بموجب إتفاقية أمكن إلغاءها ماضياً ثم إيرانية الحال بموجب أمر واقع يصعب حتى إشعار آخر ترويضه إذا إستحال الإلغاء.. إننا عند التأمل في المشهد اللبناني تتضح لنا أكثر ملامح المحنة المأساوية.

الآن تعيش بريطانيا، وسائر الدول الأوروبية كل منها بنسبة معيَّنة، بداية للظروف المشابهة لتلك التي أشرنا إليها. حاولت أن تقونن مسألة اللجوء الأوكراني إليها لكن الأحمال ثقيلة. وبدأ التفكير في أكثر من صيغة للجوء. لم يكن هنالك قبل سبعة عقود في لبنان أي تردد في إستيعاب أولئك الذين يتم إنتزاع منازلهم وإغتصاب وطنهم وإجبارهم على الهجرة. الإستضافة واجب إلى أن يغيِّر الله من حال إلى حال. أما في بريطانيا فبدأ التفكير بصيغة غير مسبوقة إزاء ظاهرة اللجوء وهي عبارة عن حملة هنالك توجُّه لتسميتها "منازل من أجْل أوكرانيا".

ليس واضحاً ما إذا كانت الأزمة الراهنة ستتعاظم وينضم إلى عشرات ألوف اللاجئين الذين قصدوا الدول الأوروبية وبالذات بريطانيا، عشرات ألوف آخرين وهذا يعني أن بريطانيا ستعيش الوضع الذي عاشه وطن محدود المساحة مثل لبنان وإلى حد أنه بات نموذجاً للدولة التي هاجر إليها الفلسطيني ثم إستوطنها، تلاه السوري الذي مضت عشر سنين على هجرته إليها بالمئات ثم بالآلاف ثم بعشرات الآلاف بفعل التكاثر والتناسل.

وأما الحل المنطقي لعلاج هذه الظاهرة.. ظاهرة أوطان صغيرة داخل الوطن الكبير فإنه في العلاج الواقعي الذي يحتاج قبل أي خطة إلى قرار أممي يحميه، وهو إعلان الدول الملتبسة المهددة بمغامرات الإستيلاء عليها دولاً محايدة وخارج الصراعات. ولقد كان لبنان دائماً منذ ثلاثة عقود من الإقتدار الإيراني وحالياً أبرز مَن يحتاج إلى الحياد الحل. وها هي أوكرانيا التي تعاني من السطو البوتيني عليها تصطف إلى جانب الأوطان التي ينجيها تحييدها من طوفان السطو عليها سواء كان السطو للأرض أو لمصادرة الإرادة. وأما فلسطين فإنها ستبقى جرحاً ينزف هموماً وإهتمامات إلى أن يفيء العالم إلى صواب. وبداية هذا الفيء تصحيح بريطانيا اليزابيت الثانية لخطأ حول إرتكابه في زمن بريطانيا جورج الخامس.. والدها.

وها هي محنة اللجوء الأوكراني المقلق بداية والمتعب نهاية لها توجب طرح فكرة ذلك التصحيح برسم المناقشة، فضلاً عن أن سلوك رغبة التصحيح المسار المتعقل كفيل بتنشيط بلورة الخطوات المتدرجة نحو سلام صامد وإستقرار دائم في العالم العربي.

ونفترض أن وليَ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وصنوه وليّ العهد الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لا بد وهما في إطار سعيهما المحسوب بدقة وطنياً ومجتمعياً سعيهما لتحقيق السلام المستقر قي العالم العربي وبما يرضي تراث الأجداد والآباء لفتا إنتباه زائرهما الرئيس جونسون يوم الأربعاء 16 مارس/آذار الجاري إلى أن خير فرصة لوضع الأزمات التي تسببت ماضياً وإنضمت إليها أزمات طارئة على طاولة البحث الجدي الذي يوصل إلى خارطة مستقرة للعلاقات التي تصون المصالح، هي ما يعيشه العالم حالياً حيث الخشية  واردة من ما قد ينتهي أعظم. وبهذا تنجو السفينة الدولية بعدما أبهتت الأزمة الروسية _ الأطلسية ورقة "الفيتو" ذلك السلاح السياسي الظالم ما دام الإثنان الكبيران أميركا وروسيا يملك كل منهما فيتاه غير القادر على إستعماله. وفي ضوء ذلك تبحر السفينة العالمية، بإفتراض بمَن على متنها شرقاً وغرباً، بتفاهم الربابنة وحُسْن تقديرهم للأمور والعواقب. والله المنقذ.

فؤاد مطر