الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

أمانة الإرث.. وكابوس الترؤس

الرجوع

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 15/2/2021

في إطلالته المباغتة يوم الإثنين 24 يناير/كانون الثاني 2022 بدا سعدالدين رفيق الحريري القطب الأكثر وهجاً في المجتمع السياسي السُني منسجماً مع نفسه محترماً كرامته التي أُسيء إليها كما لم تحدث مثل هذه الإساءة في حق رئيس حكومة. هذا من جهة. ومن جهة أُخرى رسم بقرار النأي عن العمل السياسي، وهو الذي طالما حاول مخذولاً تثبيت هذاٍ الخيار للدولة عندما ترأس الحكومة، ملامح الصدمة التي يعيشها وارث زعامة حققها الوالد، حيث أنه مهما سعى وجدد أو أضاف فإنه لا يصل إلى ما سبق أن وصل إليه المورِّث الذي سيبقى هو الحاضر في ذاكرة الناس وعلى الألسنة في أحاديث مجالسهم.

مثل هذه الحالة عاشها رشيد كرامي الذي رغم السعي الذي بذله في سنوات ترؤسه الحكومة بقي والده عبدالحميد كرامي هو الحاضر في الذاكرة اللبنانية. ويجاريه في حالته هذه القطب السياسي المسيحي ريمون إده الذي كان إستحضار الموارنة لمسيرة والده إميل إده وصراعه، حتى بعدما أسلم الروح، مع القطب الماروني المنافس بشارة الخوري، يطغى على بريق الحراك السياسي الراقي والمتوازن. وعاش الحالة إياها بعد ذلك في الفضاء السياسي دوري شمعون الذي كان جمهوره السياسي يركز في تقييم ما يقوم به من نشاطات وما يسجله من مواقف على إسم والده الرئيس كميل شمعون. ولقد نجا من المفاعيل النفسية للظاهرة المشار إليها بحكم عدم التوريث، أن الرئيس فؤاد شهاب لم ينجب. كذلك الرئيس شارل حلو. كذلك الرئيس الياس سركيس. ولولا أن قضاء الله أصاب أحد نجليْ الرئيس سليمان فرنجية (طوني) والد الوارث سليمان لكانت الظاهرة إياها سترتبط بشخصية سليمان فرنجية الحفيد الذي ترتبط تطلعاته بالجد وليس بالوالد ومن أجل ذلك فإن معاناته من ظاهرة وهج المورِّث وتأثيرها السلبي في مسيرة عمله السياسي، ليست كما معاناة الآخرين. كما نجا من مفاعيل الظاهرة الرئيس بشير الجميل وهذا عائد إلى أن الإبن هنا بنى زعامة غير مسبوقة في لبنان وفي العالم العربي خصوصاً بإستثناء حالة من التألق حققها بجهد إرادي ورؤى مستقبلية تعزز التأسيس الثالث للمملكة الأمير محمد بن سلمان حيث أنه أضاف من خلال منصبه ولياً للعهد إنجازات فاقت بكثير ما حققه ولاة عهود على مستوى دول العالم. وعندما ورث منصب الرئاسة اللبنانية أمين الجميل، بدت جلية حكاية الظاهرة أي ربط الشأن بالمورِّث الثاني (الشقيق الآخر بشير) ربطاً بالمورِّث التاريخي مؤسس "حزب الكتائب اللبنانية" بيار الجميل (الوالد). وغادر أمين الجميل المنصب وفي تطلعاته أن يعوِّض نجله بيار ما لم يستطع هو تحقيقه لكن المرهِّبين قضوا على الإبن ومعه الحلم وبات النجل الثاني سامي يحاول أن يكون في الحد المستطاع بمثل ريمون إده في معالجة تقديم الحديث عن المورِّث قبل الوارث الذي يحاول ترسيخ بريق عصاميته.
في السياق نفسه لم تساعد الظروف العائلية الرئيس الثامن للجمهورية اللبنانية الياس الهراوي ثم الرئيس التاسع الجنرال إميل لحود فالعاشر الجنرال ميشال سليمان.. إلى أن طرأ تجديد للمعادلة حيث أن التوريث حدث في حياة المورِّث الذي هو حادي عشر رؤساء الجمهورية الجنرال ميشال عون. وخلال خمس سنوات بالغة العجْف من أصل ست على أهبة الإنقضاء كانت الرئاسة إثنتيْن. واحدة رسمية متمثلة بشخص الجنرال ميشال عون والثانية فاعلة عملياً متمثلة بصهر الجنرال الرئيس. وحيثية الفاعلية أن الجنرال لم ينجب ولداً فإعتبر أن الصهر بمثابة الإبن وأنه سيصون تبعاً لذلك كشْف حساب الرئيس العم ما بعد الترؤس إذا هو كان الوريث. ومثل هذا التوريث لا يتم إلاَّ إذا مارس الدور والتأثير تحت جناح الرئيس العم. وهذا ما يحصل وإلى درجة أن الحديث عن فاعلية الصهر يطغى أحياناً على فاعلية الرئيس. وعندما فاض الكيل إزاء شأن الصهر جبران باسيل بات لا بد من كلام يبرِّد سخونة القائلين بأن القصر الجمهوري العوني محكوم برئيسيْن، فكان قول نسبته الصحافية الزميلة غادة حلاوي للرئيس ميشال عون، في عدد يوم الأربعاء 5 يناير/كانون الثاني 2022 من صحيفة "نداء الوطن" اليومية التي ولدت في ظل إنكفاء الصحافة الورقية، وتشق طريقها بثبات "أنا رئيس الجمهورية ولست رئيس التيار الوطني الحر. وقد تخليت عن رئاسة التيار عام 2015 أي قبل الرئاسة بسنتيْن لكنهم هم لم يعترفوا بجبران باسيل. وكلما أرادوا منه شيئاً قصدوني لأتدخل في أمور تعنيه. أنا رئيس جمهورية أدير شؤون البلد وجبران رئيس تيار يدير شؤون الحزب والشؤون السياسية في البلد. إذا كان جبران طامحاً للرئاسة فيجب أن يكون كفؤاً ولكنهم يخافون منه لأنه تربيتي ولا يقايض...". مجريات الأمور ونوعية التخاطب المعتمدة من جانب الصهر جبران باسيل تؤكد أن واقع الحال ليس كما حاول الرئيس الجنرال تبسيط أمر ما يقوم به الصهر الذي يؤكد حراك الرئاسة داخلياً وخارجياً أنها ذات رأسيْن. رأس فوقه التاج هو الرئيس الجنرال ورأس ممسك بالتاج في إنتظار أن يضعه على الرأس. وبهذا يسبغ على ظاهرة التوريث حالة غير مسبوقة رفضها الرئيس عبدالناصر عندما زين له متحذلقون أهمية توريث الإبن البكر خالد أو تفادياً لما قد يصبح حديث الناس، توريث أحد الصهريْن وكاد يأخذ بها الرئيس أنور السادات بحيث يورِّث الإبن جمال.. هذا لو بقي الرئيس الوالد حياً يرزق. كما أن الرئيس حسني مبارك كان على أهبة الأخذ بها لولا أن الثورة عصفت برئاسته التي كانت في الثلث الأخير منها مثل الرئاسة اللبنانية العونية: رئاسة من إثنيْن العم والصهر في لبنان. ورئاسة من الأب رسمياً في مصر ومن الإبن جمال وريثاً بتهيئة مدروسة وصلاحيات تأثيرية على الصعيديْن السياسي والمجتمعي كما حال تأثير جبران باسيل في جمهورية الثنائي الشيعي متكاتفاً مع الثنائي المسيحي الماروني ميشال عون وصهره جبران المفضل عن الصهر الآخر شامل روكز الذي إفترض لبعض الزمن أنه كعسكري مقدام أولى بوراثة العم الجنرال.
الموقف الذي إتخذه سعدالدين رفيق الحريري وسبقه إلى إتخاذ موقف مماثل بحيثيات مختلفة تمام سلام، هو الدافع إلى هذا الإستحضار للتوريث السياسي بشقيْه المعنوي والنفسي المؤلم حيث الوارث مهما أنجز يبقى أسير وهج المورِّث. كلاهما لقيا خذلاناً لا يستحقانه، خصوصاً أنهما أعطيا الرئيس الجنرال قبولاً وإن على إمتعاض بإستهانات منه تركت أثرها على المجتمع السُني الذي بات يتملكه الشعور بأن هنالك أجندة خفية الدوافع واضحة الأسلوب الغرض منها إحداث إهتزاز نوعي في الصيغة وبحيث يصبح رئيس الحكومة السُني موضع التسليم به رقماً وليس ركناً في الهرم المثلث، وفي الوقت نفسه إضعاف أي دور يستند إليه هذا الرئيس وذلك من خلال مواقف يتم إتخاذها وتجعل هذه الدولة المساندة والمتعاطفة تنأى عن التعاطي كما في السابق مع الوضع عموماً. وعلى سبيل المثال فإن إجبار رئيس الحكومة على إرتضاء التهجم على دول الخليج وإستضافة أغراب للتهجم وإعتماد تسمية الشوارع وملء عشرات الأمكنة بالصور والبوسترات واليافطات يحقق الغرض، أي يصبح رئيس الحكومة السُني رابع الثنائيْن الثنائي الشيعي القوي ﺒ "الفيتو المقاوم" والثنائي الرئاسي الجنرال الرئيس وصهره المستقوي بصاحب "الفيتو" والذي عيناه على إستحقاق إنتخابي برلماني يفرز كما الأجندة المسيئة القصد الإستحقاق الرئاسي.
هنا أُسقط الأمر نهائياً لدى سعدالدين الذي بات كوارث يبعثر عن غير رغبة تراث والده المورِّث. ونراه يقرر بعد عميق إعتماد الوقفة الحاسمة التأمل في ما قد يكون آتياً ولخصه يوم الثلاثاء 24 يناير 2022 بعد قراءة حرب التهجم على من إذا أعانوا فإنهم يحققون إستنهاضاً للبنان الذي أذله بعض أولي أمر الساعين إلى إستيلاد وطن مختلف، بعبارة "إن التاريخ لن يرحم حزباً يبيع عروبته وإستقرار وطنه ومصالح أهله لقاء حفنة من الشراكة في حروب المنطقة...".
كان الكلام موجهاً إلى الأمين العام ﻠ "حزب الله" حسن نصرالله. وكان وهو يكتب تغريدته هذه قد إتخذ قراره بأن يضع النقطة على السطر، وهو الذي إشتهر بترداد العبارة في هذا الشأن. ولقد ظن مريدوه المحتارون في أمر خياره وأقاويل حوله نيته عدم الترشح في الانتخابات أنه لا بد عندما جاءهم من أبو ظبي سيواصل دوره كقطب سُني وارث زعامة من نوع زعامة رياض الصلح وعبدالحميد كرامي وصائب سلام وأنه سيكون عند حُسْن إلتفاف المريدين حوله وأنه سيبلغهم خبر يقين الإستقرار وسيبدأ من جديد بما يجعله عند حُسْن ظن الوالد والذين سبقوه في دنيا الآخرة وبما يثبِّت الرئاسة الثالثة ركناً في المثلث الرئاسي وليست رقماً برسم التقاذف والإستهانة. كما ذهب بهم الظن إلى حد أن سعد الحريري سيقتبس وهو أمام هتافات المريدين المطالبين بإستمراره، ما فعله قبل 48 سنة الرئيس جمال عبدالناصر الذي داوى جرح هزيمة 1967 بإلقاء بيان يعلن فيه التنحي من منصب الرئيس والنزول إلى الشارع يناضل مع الجماهير لإزالة آثار الهزيمة، ثم عاد في اليوم التالي عن قراره. (من باب المصادفة إن سعدالدين الحريري كان عند وفاة عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970 طفلاً في الشهر الخامس فهو من مواليد 18 أبريل 1970).
لم يفعل سعد الحريري ذلك. وربما كان ضمناً يمهد أمام الشقيق بهاء لكي يداوي بقدر من تخفيف أثقال الإستهانة مفاعيل ظاهرة التوريث الإضطراري في نفس شقيقه كما هي في نفوس سائر الوارثين وبالذات تمام صائب سلام وبأمل ألاَّ يصيب الحريري الجديد الآتي ما أصاب الحريري المنصرف من خيبة الرهانات. والله المعين.
فؤاد مطر