الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

التعسكر والتمدين في المسألة السودانية

الرجوع

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
تاريخ الإثنين 31/1/2022

يأخذ المرء على إخواننا السودانيين أنهم يغتنمون الفرصة التي تفيد وهي إذا إقتربت قليلاً منهم إبتعدوا كثيراً عنها. وها هم منذ سنتين تائهون فيما الطريق سالكة أمامهم إذا هم حمدوا وشكروا وإرتضوا الإستقرار المفقود مدخلاً لحالة من الطمأنينة لا تحققها المسيرات المليونية ولا التقاذق بالحجارة ولا إكثار الشعارات وإبتكار الهتافات.. ولا هذا التصويب من بنادق تخص جيش السودان على شبان هاتفين آملين حالمين بأن التظاهر والهتاف المدني ضد العسكري سيحقق الحلم المنشود. كما لا يحقق الطمأنينة أن كلما تزايدت الإهتمامات العربية والدولية بهم تجدهم لا يجنحون إلى التسوية التي ينطبق عليها المثل الشعبي مع تعديل في المفردات وليس في المضمون: لا يفنى الحراك الشعبي ولا ينكسر شأن الطيف العسكري. ومن باب التوضيح فإن الأصل حرفياً للمثل هذا هو: لا يموت الذئب ولا يفنى القطيع.

عند التأمل في المشهد السوداني الذي بدأ قبل سنتيْن مثاراً للإعجاب وكيف بقيت جذوة الإحتجاج الشعبي على حالها، يخلُص المتابع مثل حالي كوني كصحافي كثير الاهتمام بأحوال السودان الذي هو مثار إعجاب في إحتجاجه ومثار دهشة في خلافات أقطابه ومدعاة للتأسف على تضييع الفرص... إنني عند التأمل أجد القلم يعبِّر عما في الخاطر بخمس نقاط هي ملاحظات مقرونة ببعض الإستنتاجات وكثير من التمنيات المندرجة في مجملها تحت ما يجوز تسميته نقطة نظام.

الملاحظة الأولى- التذكير الذي ينفع الذكرى هو أن التغيير جاء نتيجة تكاتف مدني _ عسكري ما يعني أن يقطف الطيفان الثمار الفجة أصلاً للحراك الذي تم. وكمتابع للشأن السوداني في عقر مؤسسساته المدنية وأحزابه وطوائفه ونقاباته وتقلبات الأمزجة بسرعة قياسية، ما زلت أرى أن الإستئثار المدني بالحكم عمره قصير عموماً وأنه بات على درجة من الإستحالة بعدما بات الطيف العسكري شريكاً في التغيير وهذا تماماً ما حدث. كما يمكن القول إنه لولا تلك الشراكة لكان الماضي على حاله ولبات التغيير مجرد حلم.

الملاحظة الثانية- لنفترض أن الطيف العسكري إرتأى هو من جانبه فض مبدأ الشراكة وقرر الجنرالات والعمداء والعقداء العودة إلى الثكنات فمن الذي سيتسلم المقادير. قد يقال خلطة شيوعية – بعثية – ناصرية وبنكهة نقابية ولمسات أنصارية وختمية وإخوانية سيجلس ممثلوها إلى طاولة تناقش البديل والمصير. من يترأس وكيف تتوزع الحصص وكيف يكون إرتضاء الحقائب وهل سيراعى تمثيل المناطق فينال الغرب كما الشرق كما الشمال كما جوار الجنوب كل غنيمته. هل يا ترى سيكون هنالك إتفاق وإرتضاء وثبات وممارسة ونتائج؟

في قراءة للواقع الحزبي والسياسي وللماضي العسكري وتعامُل مؤسسة الجيش مع الأزمات، يجوز الإفتراض أنه سيتم التوافق بمعزل عن الاتفاق على قيام صيغة حُكْم والإلتزام إنما إلى حين ببنود إتفاق حبَّر رموز الحراك والشأن السياسي والحزبي والنقابي بنوده مع التوقيع ثم لا تلبث الحكايا تتوالى عن حالات من التجاذب تصل أحياناً إلى درجة التخاصم. هذا ليس قراءة في فنجان وإنما إستعادة حالات حدثت.

وفي ضوء ذلك ما الذي سيحدُث؟ سنجد مجموعة من الضباط تفاجىء الجمع المدني الحاكم بإنقلاب لا مجال فيه هنا للتشارك، وإنما يأخذ الضباط على عواتقهم أمر الحُكْم بكامل مؤسساته ويبدأ بالتالي حشر بعض السياسيين المدنيين في أقبية سجن كوبر في الحد المهين وبعض آخر في منازلهم قيد الإقامة الإجبارية وتبدأ حالة عدم الاستقرار دورة جديدة.. ويؤاخذ البعض نفسه لأنه يدفع ثمن عدم الإنسجام مع زميله في الطيف العسكري.

الملاحظة الثالثة- هي حول الهتافات التي تنطلق بقوة من حناجر متظاهرين معبأين حزبياً، وتنم عن عدم إحترام للطيف العسكري في معرض المطالبة بإسقاط العسكريين الممسكين بمقاليد الأمور وبهتافات تستفز المؤسسة العسكرية. وكأنما هؤلاء العساكر من كبيرهم عبدالفتاح البرهان إلى قويِّهم محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى كل ضابط وجندي في المؤسسة العريقة غُزاة جاءوا من دولة أُخرى وقاموا بوضع اليد على المقاليد، وليسوا من أبناء السودان ومن سائر مناطق وولايات الوطن السوداني الذي كان واحداً ثم بات إثنيْن وربما لا قدَّر الله يوصله عدم الإستقرار إلى أن يصبح ثلاثة ثم أربعة، وليس مستحباً كما ليس لمصلحة المستقبل السوداني تصوير الطيف العسكري وكأنما هو يحتل السودان. مثل هذا التصرف يؤسس لأحقاد دفينة ويجعل كتاب التغيير في السودان حافلاً بالمزيد من الإنقلابات المبنية على حقد متبادل مدني – عسكري.

الملاحظة الرابعة- هي حول عدم قراءة النخبة السودانية رموز الحراك الحزبي والنقابي – المدني للموقفيْن العربي والدولي من الذي جرى ويتواصل حدوثاً في السودان. فلقد بدا واضحاً منذ الأسابيع الأولى أن أصحاب الشأن العربي والدولي منسجمون مع صيغة الشراكة التي أخذت شكلها المتوازن بالتشكيل السيادي والحكومي وما إستتبع ذلك من قرارات. ومن هنا كان حرياً بالطيف المدني قراءة الرسالة العربية – الإقليمية – الدولية بالكثير من التأني وكذلك البحث بين السطور عن بعض المعاني والتلميحات. وهم لو قرأوا لكانوا إستوعبوا كنه الموقف بحيث لا يصبح معضلة، ولكانوا بالتالي إرتضوا الصيغة التشاركية الثابتة المشذبة بعض مضامينها بمقصات القوى العربية والدولية الفاعلة في الشأن السوداني بل وفي مصير السودان الدولة وليس فقط مصير السودان الحُلم. وعندما نقول القوى الفاعلة فإننا نضع بضعة خطوط تحت كلمات: مصر. السعودية. دولة الإمارات. الولايات المتحدة. روسيا. الصين. وهذه القوى لم يغادر النصح والتحذير والمساندة عند هبوب عواصف الشدة الغذائية والنفطية، خطابها السياسي في الشأن السوداني. ثم جاءت الأمم المتحدة بدافع من هذه القوى ودول عربية وأجنبية ترتاح لها تقوم بدور لم تحظ به حركة تغيير في منطقة الشرق الأوسط وغيرها ويتمناه اللبنانيون المغلوب على أمورهم من غالبية بعض الزعامات العابرة.

لذا هنالك رسالة من هذه القوى لا يحتاج تفسير مضمونها إلى شيفرة فحواها أن خيار المضي في مسألة التطبيع وبما يخدم المحاولة التجريبية المستحدثة والرحبة بعض الشيء لتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي يشكل دافعاً أساسياً إقليمياً ودولياً وخليجياً لكي تستقر حال السودان بالصيغة المدنية- العسكرية وحتى إذا أوجبت الظروف إرجاح الكفة الجنرالية على الكفة المدنية. وهذا يعني أن الأخذ بما يطالب به الطيف المدني غير مرحب به كما عدم الرضى عن جنوح الجنرالات في إتجاه جعل الطيف المدني مجرد أداة تنفيذ للإرادة العسكرية. وما يفسر جوهر هذه المعادلة أن كل النداءات والتمنيات والإتصالات العربية والدولية تسجل المواقف التي تؤكد ضمناً ما نشير إليه، فضلاً عن أن الأقوال وإن إتسمت بالتشدد لا تنتهي إلى أفعال. وهذا يعني أن المأمول من قطبيْ الرحى السوداني التي لم تعط حتى الآن طحيناً أن يقرأوا ببصيرة الطرف المسؤول عن مصير الوطن ما الذي تريده الدول العربية والدولية ذات التأثير من طرفيْ الصراع في السودان.

الملاحظة الخامسة- إن الوضع الراهن في السودان لن يبقى على هذا الكر والفر وما يرافق جولات المواجهة من خسائر بشرية ومالية. فالحراك ليس ثورة أكتوبر البلشفية التي فجرها كارل ماركس ولينين وسائر الرفاق الشديدي الحمرة، والطيف العسكري بكامل جنرالاته ليس القيصر وحاشيته. وفي نهاية المطاف سنجد أننا أمام حالة جديدة كفيلة بطي ورقة التظاهر والهتاف والرصاص المطاطي. سنجد المشهد المدني لم يعد على ما ألفناه ذلك إن الجنرالات ورفاقهم الأدنى قد تمدينوا. أليس هذا ما حدث مع جمال عبدالناصر ورفاقه جنرالات وضباط ثورة 23 يوليو 1952 وصولاً إلى الزمن المصري الراهن. فالعسكري قادر على أن يتمدين وإستبدال البدلة العسكرية حتى إذا هي بدلة الميدان بالبدلة المدنية الأنيقة مع ربطة العنق المنتقاة بعناية، وهذا لمسناه بتقطع خلال لقاءات عقدها البرهان مع زواره العرب والدوليين والإسرائيليين متفقدين محذرين ناصحين، ولمسناه حديثاً بحرص الجنرال محمد أحمد دقلو (حميدتي) على أن يزور أديس أبابا يوم السبت 29 كانون الثاني/يناير 2022ٍ متخلياً عن زي "قوات الدعم السريع" الرقم الحاسم في المؤسسة العسكرية مستبدلاً إياه ببدلة في غاية الشياكة، ويلتقي النوبلي للسلام حرباً داخلية طاحنة أبي أحمد رئيس أثيوبيا الذي يماطل في موضوع سد النهضة، ويبرم معه ما من شأنه تبريد حمى صراع الحدود. 

... وأما المدني بعثياً كان أو ناصرياً أو شيوعياً أو نقابياً أو أكاديمياً أو ختمياً أو أنصارياً أو إسلاموياً فلا سبيل أمامه لكي يتعسكر. كما لا سبيل أمامه سوى إعتبار الطيف العسكري شريكاً أو سنداً وليس حذفه من المشهد وكأنما ليس هو الرقم الصعب في العالم الثالث... وخصوصاً في السودان ذي الإنقلابات العسكرية. والله الهادي إلى سواء سبيل التوافق.

فؤاد مطر