الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تأملات في قمة حرَّاس جيل التأسيس

الرجوع



نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 23/12/2021


واكبتُ بحكم الواجب الصحافي وعلى مدى سنوات بدأت مع إعادة الروح إلى صيغة القمة متمثلة الإعادة هذه بالقمة العربية التي إستضافها الرئيس (الراحل) جمال عبدالناصر في القاهرة (من 13 إلى 17 يناير 1964) ثم في الإسكندرية (من 5 إلى 11 يناير 1964) عشرات القمم العربية والخليجية والعربية والإسلامية وبعض دورات عدم الإنحياز، إلاَّ أنني لم أشهد سلاسة وإلتزاماً وتشاوراً ونأياً عن المجادلات العقيمة وأحياناً التراشق الكلامي، كالذي واكبتْه على مدى عشرة أيام للقمة الثانية والأربعين لدول مجلس التعاون الخليجي التي إستضافها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز بتكليف من خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان الذي ظهر في هذا التكليف بدءاً بجولة الأمير محمد على القادة الخليجيين ثم بإستكمال الطقوس المألوفة من لحظة الوصول إلى لحظة المغادرة، كمَن يقول بصيغة الترميز إلى أنه مع قمة الرياض الثانية والأربعين وفي رحاب الدرعية بما يوحي ذكرها من أجواء تراثية ومحطات تاريخية، يبدأ الجيل الثاني من القادة واجب إستكمال مسيرة المجلس الذي ما زالت أوتاد خيمته على ثباتها تهزها أحياناً حروب وأزمات مفتعلة وحالات عتب عابرة، لكن لا تلبث أن تستكين ويتواصل البذل بكل الحرص والمسؤولية.
ونحن عندما نقول الجيل الثاني من القادة فمن منطلق أن جميع المشاركين كانوا عند تأسيس السلف الصالح بين مَن هو في سن تراوح بين الطفولة ومطلع الشباب، فالأمير محمد بن سلمان ولد بعد أربع سنوات من إعلان القادة الخليجيين الستة رحمة الله عليهم من قمة عقدوها في أبوظبي عام 1981 بيان تأسيس مجلس التعاون الخليجي، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد كان في السنة الأُولى من العمر، ورئيس وزراء الإمارات حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كان في بداية العمر الشبابي، وهيثم بن طارق سلطان عُمان (أناب عنه مَن يمثله) كان أيضاً في السن السادسة والعشرين من العمر. الوحيدان اللذان واكبا وهما في دائرة إتخاذ القرار كل لبلده وفي سن النضوج هما أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الذي كان عند قيام المجلس في عنفوان شبابه (44 سنة) وأناب عنه شقيقه الشيخ مشعل الأحمد.
ما يقال عن رموز القمة كل في دولته، يقال عن رموز الدبلوماسية الذين يترجمون قرارات وإرادات القادة. وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان كان عند تأسيس المجلس في السابعة من العمر، والشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية الإماراتية كان في التاسعة، والشخ أحمد ناصر المحمد وزير الخارجية الكويتية كان في العاشرة من العمر، ومحمد بن عبدالرحمن وزير الخارجية القطرية كان طفلاً في شهره الخامس. إثنان فقط كانا في بداية عمر الشباب: عبداللطيف الزياني وزير الخارجية البحرينية في السابعة والعشرين، وبدر البوسعيدي وزير خارجية سلطنة عُمان في الواحدة والعشرين. هؤلاء كانوا على موعد مع واجب الحراسة الدبلوماسية للإنجاز الذي بدأه الآباء وكان تأسيسهم حالة من حالات القراءة في المصائر مستقبلاً.
زيارات الأمير محمد بن سلمان لعواصم دول المجلس كانت تقليداً غير مسبوق. إعتدنا على أن يتم الإنعقاد بعد توجيه دعوات يتولاها الأمين العام للمجلس. لكن على ما يمكن إستنتاجه هو أن وليّ العهد السعودي أراد أن يكون مضيفاً بشمائل سلمانية وهي إستباق يوم الإنعقاد ببضعة أيام جال فيها على إخوانه حراس الكيان الرحب الذي إجتاز بسلامة أربعة عقود من الصمود في وجه المفاجآت ومن التريث في تنفيذ مقررات تستهدف شد أواصر الكيان الخليجي وإدخال المزيد من الإنصهار السياسي والوطني وبما يحفظ للسيادة دوام الاستقرار والخصوصية. ولقد درجت مقدمات إنعقاد القمم العربية والإسلامية على أن تكون الدعوات إلى هذه القمة أو تلك على درجة من البرود كأن يتم إرسال موفد ومعه رسالة دعوة أو تتم الدعوة من خلال إتصال هاتفي من جانب صاحب المقام المستضيف إلى أصحاب المقامات المشاركين في القمة. ثم يأتي الأمير محمد بن سلمان يأخذ بالصيغة الأكثر تقديراً لقادة دول المجلس حيث يزورهم وكأنما تنعقد القمة في عاصمة كل دولة زارها، ويبرم في الوقت نفسه من الإتفاقيات التي تستهدف التطوير ثم يعود وفي عنقه وعلى صدره الأوسمة الأعلى.
عند الإنعقاد يعلو منسوب التآلف والتقدير وتنتهي الدورة الثانية والأربعين لدول مجلس التعاون الخليجي وكأنما هي عدا ما إتخذتْه من توصيات تبعث في طيات عبارات وردت ما يمكن إعتبارها رسائل إلى بعض الأشقاء العرب، الغارقين في صراعات والمستغرقين في أوهام يعتبرونها من الأحلام، فحواها أن عدم اليقظة من تلك الأوهام ومن سيء الكلام وسوء التصرفات مآلها المزيد من الإنحدار. كما يمكن تفسير بعض العبارات سواء في البيان الصادر عن أعمال القمة أو في "إعلان الرياض" بأنها لفْت إنتباه للدول الكبرى بأن تركيز دول المجلس على الإقتصاد والتنمية ومواكبة التطور العملي أرضاً وفضاء والإنفتاح المتدرج على تنقية الأجواء السياسية من خلال خطوات تسالمية مدروسة ومتدرجة، لا يعني أن الصفحة الملأى مناشدات من تاريخ الصراع مع إسرائيل قد طويت وإنما هي في إنتظار كتابة جديدة يتشارك في تحبيرها أهل القضية وسندهم العربي والإسلامي وأطراف الظلم التاريخي المتعمد ونعني بذلك الدول الكبرى المحتارة بأمر النظام الثوري الإيراني من دون الحسم معه والمماثلة بالفعل والقول للسلوك الإسرائيلي الذي ما زال يرى السلام تجارة وليس قضية.
جاء إنعقاد القمة الخليجية الثانية والأربعين في وقت السعي المرتبك للقمة العربية الدورية المقرر عقدها من حيث دور الإنعقاد تبعاً للحروف الأبجدية في الجزائر. وقد تكون زيارة الود الجزائري في أعلى درجاته من جانب الرئيس عبدالمجيد بتون لتونس الرئيس قيس بن سعيد فيما قادة دول الخليج يعقدون قمتهم، متأثرة إلى حد الإقتباس بالصيغة التي إعتمدها الأمير محمد بن سلمان بجولته الخليجية إستباقاً لإنعقاد القمة في الرياض. عسى ولعل تكتمل خطوات الإقتباس فعلاً وروحاً من جانب الجزائر المستضيفة القمة العربية، وبذلك ينحسر بعض الشيء الإنطباع بأن هناك عالمان عربيان وليس فقط هنالك عالم عربي واحد.
ويبقى القول في ضوء ما رافق القمة الخليجية في الرياض وما إنتهت إليه أعمالها وما صدر عنها من توصيات، إن جيل حراس تأسيس الكيان الخليجي يبشر بتثبيت التسامح والتضافر والسير بخطوات مدروسة على طريق التطوير والتحديث وكل ذلك رغم وعورة طريق التحديات والإعتداءات أحياناً سواء بالكلام أو بالمسيَّرات من دون أي تهديد بالإحراق والتدمير رداً بالمثل، والإكتفاء بتكرار النصح والدعوة إلى سواء السبيل.
ولقد تفتحت عيون حراس تأسيس مجلس التعاون الخليجي وواكبوا مسيرته وعايشوا ما يسر الله من خطوات إتخذها المؤسسون وما يضر من تحديات إستهدفت التجربة وتناقضات حدثت نتيجة وجهات النظر بين رموز أركان التجربة، وعلى القاعدة الشعرية "وإن الذي بيني وبين بنو عمي لمختلف جداً...". وها هم في كنف خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز حراس الصيغة التي رحل رموزها وأحدثهم السلطان قابوس بعد الشيخ جابر الأحمد والشيخ خليفة بن حمد آل ثاني والشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والملك خالد بن عبدالعزيز، يؤدون الواجب على الوجه الأكمل. وبذلك فإنهم على نحو القول الطيب من طينة الفتية "الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى".
لعل الهداية تصل إلى بعض الضالين في ديار الأمة، وكانوا بأفعالهم وأقوالهم في مواسم الصراعات من صانعي المشهد الراهن الذي يعكس إنطباعاً بأن العالم العربي إثنان أحدهما العالم العربي الخليجي في عهدة حراس يقظين متكاتفين متفهمين. والله المنجي للعالم العربي الآخر وبالذات لمن ليسوا جديرين بالحفاظ على سلامة البلاد وطمأنينة العباد. وهذه حال لبنان لا تحتاج إلى كثير الكلام في شأنه تتساوى حاله وبنِسب متفاوتة لجهة السوء والتخبط والإرتهان مع أحوال سوريا والعراق وليبيا وتونس والسودان وفلسطين.. إلى ينظر الله في أمر العابثين.
فؤاد مطر