الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

أوطان في مهب القضم

الرجوع

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
تاريخ الأربعاء 10/2/2021

هنالك بعض أوجه الشبه في مقدمات ما جرى قبل ثلاثين سنة عندما لم يرتض الرئيس صدَّام حسين أن يكون واحداً من مجموعة إخوة في الجناح الخليجي من الأمة وإقترف إثم الغزو الذي أتبعه بضم دولة كانت كما سائر دول الخليج دون غيرها من الدول العربية سنداً بالمال والإعلام والحراك الدبلوماسي لمواجهة إيران الخمينية طوال ثماني سنوات من الحرب الطاحنة الماحقة، وبين الذي تمارسه إيران الخامنئية منذ بداية العهد الثاني من الثورة الإيرانية وتؤكد بما تفعله أنها هي الأُخرى ومن خلال إثم التحرش والإعتداءات بتكليف غير إيرانيين القيام بها لا ترتضي أن تكون أخاً جاراً تحادد إخوانها الخليجيين العرب.

وإذا كان الفعل الصدَّامي غزواً وضماً للكويت خطأ، فإن الفعل الإيراني تحرشاً وقضماً بالتدرج يصل إلى مرتبة الخطيئة. لقد إعتبر صدَّام حسين أنه لمجرد أن يستكمل مخطط الضم ويبسط النفوذ بكل مناحيه فإنه يصبح الرقم القوي الذي يتعامل المجتمع الدولي معه على نحو ما كان جمال عبدالناصر يتطلع إليه وبقي التطلع قائماً إلى أن حدثت حرب 5 يونيو 1967 وإنتهت هزيمة حاول مداواتها بالتنحي الذي لم يكتمل. وأما ورثة الحقبة الخمينية فإعتمدوا أسلوب القضم كونه الأكثر يسراً لهم لأن الورقة المذهبية ذات تأثير يفوق بكثير أي أوراق أُخرى. وبالورقة المذهبية والتي لها فعل ذهبي من حيث قيمتها كتأثير بدأت عملية متدرجة لقضم الإرادات والسيادات حيث هنالك حضور مذهبي شيعي أو هو رافد للأصيل. وهنا للتحديد نشير إلى أن الحضور الأصيل هو في العراق ولبنان فيما هنالك الرافد العلوي في سوريا والرافد الحوثي في اليمن، فضلاً عن جداول صغيرة في مصر وبعض الدول العربية.

من خلال العلاقة مع سوريا التي ربطها النظام بإتفاقيات مثَّلت المشاعر المذهبية دوراً في إتمامها، بدأت عملية تفعيل الرافد اللبناني وتسريع البدء بتحويله إلى العنصر الفاعل في القرار السياسي، ومن هنا جاءت معادلة الشعب والجيش والمقاومة على خلفية إنتصار على إسرائيل التي كانت إحتلت مناطق من جنوب لبنان. بعد هذه الخطوة وتمكين إيران من الإمساك بمفاصل في النظام السوري جعلها شريكة في قرارات الدولة أكثر منها ذات دور إستشاري، بات هنالك ما يجوز إعتباره "الجمهورية الظل" في لبنان كما حكومة الظل في بعض دول العالم. ثم إكتملت تلك "الجمهورية الظل" بشراكة غير مسبوقة مع النصف الأقوى من المارونية السياسية في شخص الجنرال ميشال عون الذي بنى شعبية من خلال مقاومة "الاحتلال السوري" للبنان كما نال ضِمْن معادلة مستغربة رئاسة لبنان من خلال إرتداد على الموقف السابق بتحالف مع "حزب الله". وبذلك بات دور الطبعة الجديدة من المارونية السياسية وتأثيرها بمثل دور الحوثية السياسية في اليمن.

وهنا بات الذي يحدث وعلى سبيل المثال لا الحصر في كل من لبنان واليمن عملية قضم إيرانية متدرجة للسيادة وللقرار وبحيث أن أوجه شبه كثيرة ماثلة أمام المجتمع الدولي بين الضم على نحو ما إقترفه صدَّام حسين في حق دولة ذات سيادة وبين القضم الجاري خلسة وأحياناً على الملأ وضمن ذرائع وإجتهادات غير مقنعة وغير مطمئنة وغير سيادية وهذا هو الأهم. وليس مستبعداً في حال لم تحدُث حالة التنبه مما هو قيد التخطيط له أن ينتهي الأمر بلبنان إلى ما إنتهى إليه في اليمن كأن يتم بذريعة ملء الفراغ السياسي الأقوى مذهبياً ومن خلال الغطاء الماروني المتمثل بحليف حزب الله وشريكه تمديد رئاسة رئيس الجمهورية الحالي وفي ظل التمديد يتم إختيار الرئيس الخلف الذي يكون بطبيعة الحال بمثل السلف لجهة الولاء وعدم الخروج من التحالف.

لولا الإختراق الروسي للوجود الإيراني في سوريا وتلك خطوة تُحسب للنظام البشَّاري، أو ربما هي وصية، من وصايا الوالد الذي رحل، لإبنه الذي ورث الرئاسة، لكانت وتيرة القضم تسارعت وبحيث لا تعود النجدة الإيرانية للنظام الذي غادر عرينه العربي مختاراً أو مضطراً أو مغامراً أو حتى مراهناً أو مقامراً، تقتصر على حالات متتالية من التشيُّع وإنشاء المزيد من المدارس وإدراج الفارسية لغة في المناهج الدراسية ومن إستملاك عقارات أموية تاريخاً وتراثاً وتغيير أسماء شوارع بحيث أن التسمية المستجدة لهذه الشوارع في سوريا هي فرع للتسمية المعتمدة في شوارع طهران وغيرها. وبعد الإختراق الذي نشير إليه والذي بات عبئاً على رئاسة فلاديمير بوتين التي تواجه هذه الأيام حراكاً شعبياً غاضباً قد يتطور إلى ما يشكل بداية زعزعة المهابة البوتينية، بات النظام البشَّاري أسير ذئبيْن في وقت واحد وعلى أهبة تسريع وتيرة إنخراط الذئبيْن الآخريْن التركي والأميركي في اللعبة ونزولهما بشكل أكثر فاعلية إلى الحلبة.

ما يراد قوله إن أسلوب الضم الصدَّامي الذي قُضي عليه بالقضاء على فاعله شخصاً ونظاماً، هو ما قد يصبح أمراً واقعاً في حال لم يقتنع النظام الإيراني بأنه كواحد من جمْع في المنطقة أكثر أمناً وسلامة لإيران الخمينية التي أفشل لها صدَّام حسين مشروع الضم الذي كانت على أهبة البدء به من خلال ضم العراق كما ضم صدَّام الكويت، وضم العراق أكثر يسراً ما دامت المسألة كذريعة إسترجاع حقوق مؤممة للشيعة من النظام السُني. هكذا كانت الاطروحة الخمينية وفي هدي هذه الاطروحة شيَّدت إيران قلاعها في العراق بأمل أن يكون محطة ترانزيت ثابتة لها في الطريق إلى سوريا وتكون هذه الأخيرة محطة الترانزيت الأكثر ثباتاً لها في طريقها إلى لبنان تمويناً وتدريباً وتأثيراً.

يطول الكلام في هذا الشأن المعضلة ولكننا في واقع الحال أمام حالة قضم من جانب إيران لسيادات وقرارات أقطار عربية مرشحة لما هو أسوأ بكثير مما نراه الآن في لبنان واليمن وسوريا والعراق، وهذه الدول قد تصبح لقيمات سائغة في الأفواه الإيرانية بشتى منطلقاتها الحرسية الثورية والمرشدية والمرجعية والنووية آتياً، في حال طال التعامل العربي-الدولي الراهن مع المخطط الإيراني الطموح ضمناً الشرِه شكلاً. ولا يخفف من وطأة مفاعيل هذا المخطط إدعاء الجار الإيراني بأنه ليس من يتدخل مباشرة وأن الذي يجري في بعض الدول العربية أو تحدُث محاولات قصف لها هو حالة عربية –عربية.

هنا يستحضر المرء ما حدث بعدما غزا صدَّام حسين الكويت وألغاها بزيارة لها وبتعيين حكومة بديلاً للحكومة الشرعية. فلو أن التعامل زمنذاك مع الفعل الصدَّامي كان بمثل التعامل العربي مع إيران الخمينية التي تمارس دوراً من خلال القضم يتمثل في مصادرة الإرادة الوطنية والسيادة والقرار والذي يتماثل بعض الشي خطورة وتأثيراً بالضم والإحتلال، لكانت الكويت إلى الآن "فرعاً عاد إلى الأصل" ولكن الحراك العربي وإن لم يكن مكتملاً أمكنه إستعادة الكويت من أسرها، مع إرفاق الإستعادة بشديد المرارة لما نتج عن الإستعادة من كوارث للعراق ما زالت معالجتها لم تنته بعد مرور ثلاثة عقود على إرتكاب إثم، كان العراق في غنى عنه لو أن سلطته الحاكمة إرتأت وعن إقتناع بأن الأخ واحداً من مجموعة أخوة أكثر طمأنينة له في السراء والضراء. ومن هنا فإن حراكاً عربياً مماثلاً مع إفتراض أنه سيكون هذه المرة أكثر رحابة، لذلك الحراك الذي جرى من أجل تحرير الكويت، هو فِعْل ضرورة.. وإلاَّ ضاعت كيانات عربية. والمتأمل في أحوال كيانات مثل لبنان وسوريا واليمن والعراق يرى أنه من دون ذلك الحراك لن يكون هنالك إستقرار مستديم ولا جوار حَسن. ونتذكر كيف أن أمير الدبلوماسية السعودية سعود الفيصل رحمة الله عليه بقي حتى وهو يتعالج ينادي النظام الإيراني بخير العبارات من أجل التحادث بما يحقق أفضل العلاقة ويقترح لهذا الغرض الطيِّب صيغاً للقاء أحدها في جدة والتحادث، ولكن إيران لا تتجاوب. والمملكة في ظل الدبلوماسية السعودية الراهنة والمستندة هذه المرة إلى إلتفاف عربي نسبي وخليجي شامل حولها تنادي بالرغبة نفسها لكن إيران ترد إما بصاروخ حوثي يستهدف حتى العاصمة الرياض وبشحن كلامي ومذهبي من لبنان يعطل أي محاولة لتحسين الأحوال التي تزداد سوءاً في دول تنشط الأذرع الإيرانية فيها على أساس أنها فروع للأصل.

هل يحدث مثل هذا الحراك العربي وهل يتجاوب المجتمع الدولي بوقفة مع هذا الحراك بمعنى أن لا تقتصر على العقوبات المالية ولا فقط على التصنيفات بين إرهاب وفساد، وإنما على خطوات أكثر فعالية لا يتمنى المرء أن تكون على نحو الحرب التي من أجل تحرير وطن دمرت وطناً. ومن محاسن الصدف أن الإدارة الأميركية وحليفاتها في القارة الأوروبية العجوز المبتلاة مثلها بالجائحة الكورونية وحفيداتها المتحورة، أكثر تعقلاً من الذي جرى قبل ثلاثين سنة... ويا ليته حدث بشكل أقل تسرعاً. والله المعين.

فؤاد مطر