الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

نوبل للسلام.. تليق بهما

الرجوع

 

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الإثنين 26/4/2021

 

من بين كل الزيارات التي قام بها قادة ومسؤولون دوليون إلى العالم العربي لم تأخذ زيارة أي من هؤلاء البريق الذي أخذتْه زيارة البابا فرنسيس إلى العراق مطلع شهر مارس/آذار 2021. ومن بين مئات المشاهد التي بثتها الفضائيات الدولية ونشرتْها صحف العالم لم يأخذ مشهد كذلك الذي يمثِّل لقاء البابا فرنسيس بالسيد علي السيستاني المرجع الأعلى للشيعة. رمزان دينيان وقوران إجتمعا في غرفة خالية من أي بهرجة وعلى مقاعد كتلك التي في بيوت فقراء وبسطاء الناس في العراق ونسبتهم تتجاوز الثمانين في المئة. وعلى طاولة صغيرة تفصل بين الزائر الروحي المهيب لمثيله في المهابة علبة مناديل ورقية. مثْل هذه البساطة لم يفتعلها السيد السيستاني، فهذه حياته التي هي نقيض الذين تسيَّدوا في حمى الطبق الإيراني الحافل بالمطيبات وظلال الإطباق الأميركي على السيادة الوطنية فما عاد القرار بإرادة الذين يمسكون بمفاصل السُلطات وإنما بات مزيجاً من الإيحاءات الوطنية والعين البصيرة السليمانية الحرسية الجاحظة والتسليم الأميركي إلى حين بها. ومن هذا المنطلق باتت الخطبة السيستانية لصلاة الجمعة التي يلقيها من يمثله قريبة الشبه بتلك العظات التي إرتبطت بالمرجعيتيْن المسيحيتيْن في لبنان بطريرك الطائفة المارونية يحاول تضميد تشققها ومطران الطائفة الأرثوذكسية يرفد بالروحية نفسها ما قيل حول أهل السياسة عموماً، وكيف أنهم لا يمارسون ما هو الواجب عليهم والمأمول منهم تجاه الوطن والشعب. وكما أن الخُطب السيستانية المحتوى في صلاة الجمعة والتصويب من خلالهاعلى السياسيين لكي يهتدوا أشعلت المزيد من الحماسة في صفوف عشرات الألوف الذين ينشطون تظاهرات وهتافات، فإن عظات قداديس يوم الأحد وفي المناسبات الدينية أدت الدور نفسه، مع فارق أن الحَراك الشعبي العراقي وعلى رغم قسوة التعامل الميليشياوي أحياناً أثمر حكومة ما زال رئيسها مصطفى الكاظمي يجاهد عربياً ودولياً وإقليمياً من أجْل أن يتم طي صفحة ما قبل العام 2021 ويبدأ العراق عودة ذلك الوطن الذي يملك فيه أهل الحُكْم قرارهم وتتحقق للأطياف الشعبية المطالب ويستعيد الوطن سيادته كاملة غير منقوصة. وأما الحَراك اللبناني فمرجأ إلى حين إنبثاق فجر جديد ورؤى حكيمة كتلك التي رمزاها في العراق: رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الحكومة مصطفى الكاظمي.

وسط هذا السعي الوطني جاءت زيارة البابا فرنسيس تعزز من جهة النهج الموضوعي الذي ينظِّم خطواته رئيس الحكومة الشيعي مع رئيس الجمهورية السُني وضِمْن إيقاعات محسوبة بدقة وترمم نفوساً إستقر الإكتئاب فيها، إلى جانب العيش في رحاب عمران تم تدميره خلال أربع سنوات داعشية ما زال المرء في حيرة من أمر إستيلادها ومَن هو الطرف غير المسلم الذي إستنبط صيغتها وقام بتمويلها لكي تُشوه الدين الحنيف وتُشتت شمل غير المسلمين من أبناء الوطن العراقي المبتلى بالإحتلال.. ثم لتنمو أغصان هذه الشجرة الشريرة في بلد غير عربي وأجنبي.
أهمية زيارة البابا فرنسيس للعراق أنها جاءت من صاحب همة ثمانينية تحتاج إلى الراحة وإلى أن يأتي المتعَبون إليه لكي يسمعوا منه القول أحبوا بعضكم بعضاً، وصونوا أوطانكم بمثل صونكم لعائلاتكم وأولادكم. وعندما شاهد العابثون بالأوطان والسيادات كيف أن هذا الحَبْر الثمانيني نزل سُلَّم الطائرة دون مساعدة أحد متكئاً على رعاية الله له ولمقصده النبيل ثم صعد درجات السُلَّم درجة درجة وليس كما السُلَّم الكهربائي الحركة، وكيف كان في داخل نفسه يستعيد القول الإنجيلي "أُعبروا أُعبروا بالأبواب. هيئوا طريق الشعب. إرفعوا الراية للشعوب، ثم كيف خاطب المرحبين به وبينهم المهمَّش والخائف والمهجَّر والمهجور والباحث عن مأوى يعوضه أفعال "جهاديين" عبثوا وخرَّبوا وإرتكبوا المشين من الأفعال، والأهم من ذلك كيف وجد في نظيره السيد السيستاني هذه البساطة الغاندية في العيش والبلاغة في التعبير... إن البابا عندما شاهد وخاطب وسمع وأسمع، رأى أن له في رحاب النجف الأشرف أخاً تؤاماً في النظرة إلى الدنيا وإلى مَن يشاركه واجب السعي من دون كلل من أجْل أن يسود السلام على الأرض وفي الناس المحبة، وبالذات في دول يعصف بكينونتها بعض أبنائها الذين يتعاملون مع الوطن وكأنما هو ورقة للبيع مقابل شراء حالات عابرة من الترؤس، كما يتعاملون مع طوائفهم وكأنما الطائفة هي الأُخرى سلعة برسم من يشتري، وهذه ظواهر إزدهرت وما زالت رائجة في أقطار من الوطن العربي بدءاً بلبنان ومروراً في اليمن وسوريا والعراق ومصر والسودان وبعض دول الخليج وصولاً إلى فلسطين وليبيا التي إهتدتإلى سواء منتصف السبيل وتتأهب لإنجاز النصف المتبقي تحت مظلة من التآلف الوطني القَبَلي ثم تونس التي ما أن بدأت سيرها على طريق الهداية حتى إنحرفت فيما الجزائر حائرة في أمرها. لعل البابا فرنسيس كمرجعية روحية لا مصلحة لها سواء على صعيد إقتناص المال من حكام ميسورين بذريعة وعود لم تلقَ أي تنفيذ، أو على صعيد إنشاء شركات، يحقق السعي المشكور لنشر الوئام في نفوس أقران لبنانيينلسياسيين وحزبيين عراقيين، عندما يزور لبنان المعتل الذي أراد أن لا يزوره كمحطة توقُّف وهو ذاهب إلى بلاد الرافديْن أو عائد من الزيارة الميمونة وإنما أن تكون زيارته للبنان، المثخن بجراح الإحقاد والتحزبات والإستهتار بالكيان وبمصالح الناس، في المدى غير البعيد ذات مردود معنوي كتلك التي قام بها إلى العراق وكتلك التي يتمنى الإنسان العربي الذي أرهقه التلاعب الأميركي- الإسرائيلي أن يمد الله بعمره وعمر السيد السيستاني وعُمر الشيخ أحمد الطيِّب أن تحدُث من خلال قمة مقدسية لتثبيت المبادرة العربية للسلام ولواقع فلسطيني إسلامي- مسيحي- يهودي مكفول ومحسوم أممياًفي ضوء وثيقة جاهزة أعطاها البابا فرنسيس من الصياغة الكثير من التأني قبْل أن يزور العراق وستكتمل تأنياً بعد الزيارتيْن.. زيارة العراق التي تمت.. وزيارة لبنان المأمولة.
ويبقى التمني بأن تكون جائزة نوبل للسلام للعام 2021 والتي يتنافس عليها 329 كما التقليد المتبع هو الإعلان يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل عن الشخص أو المؤسسة أو البرنامج الإغاثي الفائز بها ثم في ديسمبر/كانون الأول المقبل يتم التسليم عبارة عن مفاجأة سارة لجميع شعوب الأرض المبتلاة بالحروب والصراعات والجائحة الشريرة، وبحيث تكون هذه الجائزة جائزة السلام المنشود بالفعل يتقاسمها الثنائي الساعي لإزالة الحزن من قلوب شعوب المنطقة ونشْر المحبة في ربوع الأوطان وطي صفحات الصراعات: البابا فرنسيس والسيد السيستاني. وتجدر الإشارة إلى أنهوفي ضوء ما إرتسم في المشهد أمام العالم عن زيارة العراق فإن نوبل السلام تليق بهاتيْن المرجعيتيْن، ذلك أنها لم تكن من أجْل غسْل ما في القلوب من أحقاد وتعويض ما دمرتْه الجحافل الداعشية وأكملت عليه الجيوش الميليشياوية، وإنما أيضاً لإزالة أدران حقبة الإحتلال الأميركي للعراق. ومن هنا كان الإطراء الإستثنائي من جانب الرئيس جو بايدن لها، ولا بد من جانب أولئك الذين ضاقت صدورهم بأثقال خطايا الذين يتابعون من عليائهم تماماً كما فعل في ذلك الزمن الغابر نيرونه المبتهج برؤية المدينة الجميلة روما تحترق وكما هنالك مبتهج بالذي أصاب وما زال توأمها المتكئة على شاطئ الأبيض المتوسط نفسه... بيروت أم الشرائع مسح المولى تعال جراحها.

فؤاد مطر