الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

علاقة تحتاج إلى مَن يصون لا مَن يبعثر

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الثلاثاء 25/5/2021

أكثر ما يستوقف المرء عند التأمل في تداعيات الزلة اللسانية من جانب مَن يترأس الدبلوماسية اللبنانية حالتان أُولاهما أن رد الفعل اللبناني عليها كان هو اللافت وأن الجانب الظاهر منه ليس أشد إنزعاجاً أزاء تلك الزلة من الجانب غير المعبَّر عنه من خلال إستنكارات تتضمنها تصريحات. ونقول ذلك على أساس أن الإنزعاج الصامت كان من أطياف كثيرة ساءها ذلك التوصيف غير المستحَب يأتي من المسؤول الذي، كما المتعارف عليه، واجبه تطويق أزمات تنشأ بين الدولة التي يشغل فيها منصب وزير الخارجية ودول أُخرى شقيقة كانت أو صديقة أو ترتبط الدولة التي هو وزير خارجيتها بمصالح مع تلك الدولة. ولقد حدث ومن قبل أن يسارع سياسيون ورموز مصالح سياسية طموحة ومصالح إقتصادية متوعكة إلى دارة السفير السعودي وليد بخاري كتعبير عن إنزعاجهم من الذي قاله وزير خارجية بلدهم أن أطيافاً عريضة من المواطنين كانوا وهم في مجالسهم في حالة إستغراب للفعل الكلامي المنقوص الكياسة، ليس فقط خشية أن يكون لهذا الكلام مردوده على حساب علاقة تصون لبنان المستقر وتبذل الكثير من النصح في حال حدث خروج عن الخط المستقيم، وإنما لأن بئر المملكة من مؤسسها إلى السائرين على خطاه من أبناء وأحفاد لا تُرمى فيه حجارة. وأما في ساعة الشدة فهي الحاضرة والمبادِرة ومن دون الحاجة إلى طلب من أجْل تخفيف تلك الشدة. هذا أمر محمود نشأ عن تلك الزلة اللسانية. وكان له ما يجوز الإفتراض دور في أن إنزعاج الأشقاء المساء إليهم لم يصل إلى درجة تفعيل أوراق الإقتصاص الذي بمقتضاه تُقفل أبواب الإستيراد وكذلك إمكانات ألوف اللبنانيين المستقرين وظائف ومصالح في السعودية وسائر دول الخليج.

بل حتى يجوز القول إن درجة الإنزعاج الشعبي يتداوله الناس في مجالسهم، كان نوعاً من الإستفتاء العفوي حول موضوع أساسي وهو أن العلاقة مع السعودية وشقيقاتها دول مجلس التعاون الخليجي ليست للتنظير ولا للتهجم. فهذه دول تبادر في العطاء وتبادر عندما يكون اللبنانيون في حالة إشتباك لكي توفِّق بينهم.

في أي حال رب ضارة نافعة، أو فلنقل رب ضارة من شأنها التنبيه إلى أن ما يصدر عن اللسان في لحظة عدم تبصُّر للأمور له مردود القذيفة التي تنطلق من فوهة بندقية مَن هو دخيل جديد وغير متمرس على الإستعمال الصحيح للسلاح.

وبقدر الشعور بالصدمة من الذي فعله قولاً وحركة رمز الدبلوماسية اللبنانية بالقدر نفسه يُحسب له أنه إعتذر وأن مغادرته المنصب غير المستقر أصلاً لم تتأخر. وفي أدبيات التراث العربي الديني والسياسي أن الإعتذار يبدد العتب مهما إشتد، إنما في حال كان المعتذر من أصحاب النوايا الطيِّبة.

ما أوردناه كان ملامح أُولى الحالتيْن. ثم تأتي الحالة الثانية التي تبدد من فضاء الأجواء قتامة العبارة التي حفرت عتباً شديداً في النفوس. وتتمثل الحالة الثانية في أن المرجعية السعودية العاتبة والمتمثلة في شخص سفير المملكة لدى لبنان وليد بخاري أدخل إلى الكم من إبتكاراته التي إما تعزز العلاقات وإما تبدد الكثير من سواد أزمات طارئة، صيغة الخيمة التي فوجئ بها زائرو الدارة السعودية التي لم يخطر في بال الجميع، عدا السيدات الزائرات، أنهم سيجلسون أرضاً كما سائر أهل السعودية عندما يمضون أوقاتاً في البر. وتكون مفارشهم جلود أغنام وشرابهم قهوة تعطرها حبات الهال. لقد أراد القول ما معناه ها نحن الذين خصَّنا رمز دبلوماسيتكم بتلك الزلة اللسانية. لكم كان اللبنانيون يتمنون لمرجعية صاحب تلك الزلة مثل هذه الجلسة أمثولة له في ضبط اللسان كي لا يودي إلى ما يتجاوز العتب وأحياناً الإجراءات.

كان الرئيس الجنرال ميشال عون مرجع صاحب التعبير غير الودي عن قصد أو عن مجرد زلة لسان، على مقاعد الدراسة عام 1952 مجرد شاب في التاسعة عشرة من العمر يحلم بالإنتساب إلى الكلية الحربية، عندما كان الرئيس الأول للبنان الميثاق الوطني والإستقلال بشارة الخوري منشغل البال على لبنان، الذي كان زمنذاك يعيش ظروفاً، بل ومخاطر كتلك التي يعيشها منذ أن بات الشاب الحالم بأن يكون ضابطاً في الجيش، جنرالاً ورئيساً للجمهورية. مخاوف كثيرة من تغيير الوضع الراهن جغرافياً وسياسياً في الشرق العربي (المخاوف راهناً هي نفسها) ويدفع إستقلال لبنان وميثاقه الوطني وسيادته الثمن.

مَن في إستطاعته المساعدة على درء الخطر المحتمل الحدوث؟

 الذي رآه الرئيس الشيخ بشارة أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود هو، بتوصيف رمزي، الخيمة التي يلوذ فيها لبنان الخاشي على صيغته وسيادته وإستقلاله، كما تكراراً حاله الآن. ولأن الرئيس الذي وصلت به الخشية إلى حد الخوف أن ينام على وطن وسيادة ويصحو على لا وطن ولا سيادة أمسك بالقلم وحبَّر خشيته واضعاً الأمر بين يديْ الذي لا يروم في إخوانه الدول العربية الحديثة المستقل منها وتلك التي لا تزال تحت الإنتداب مباشرة، لا الإحتواء ولا التدخل فهو كابد مشقة التوحيد وكيف أن صيانة ما جرى توحيده لا تقل عن مشقة التوحيد.

هنا أضع ككاتب وباحث وكمواطن ساءه، كما سائر الذين هواهم لبناني سيادي عروبي ويؤمن بالحياد صيغة ثابتة للوطن، أن يقول وزير في حكومة وطنه من الكلام ما ليس فقط يجافي حقائق ثابتة وإنما يتسبب في إلحاق الأذى بعلاقة تحتاج إلى مَن يصون وليس من يبعثر.. هنا أضع من باب التذكير بأمل أن تنفع الذكرى نص رسالة الرئيس الشيخ بشارة الخوري الحسنة الألفاظ وصدق النوايا إلى الملك عبدالعزيز (رحمة الله على الإثنيْن) ورد الملك الموحد والمؤسِّس عليها برسالة من النسيج الحادب نفسه تأكيداً لحقيقة لا تؤثر فيها ألفاظ تصدر من الذين لا يدرون ماذا يقولون وهذا خطأ أو إنهم يدرون وتلك خطيئة.

رسالة الرئيس الأول للبنان المستقل الخاشي على سيادته وإستقلاله وخصوصيته كما الخشية الحالية إنما ليست من جانب رئيسه وحاشيته بالنص الآتي:

«لا يخفى على جلالتك ما آلت إليه الحالة في الشرق العربي. إن إغتيال المرحوم رياض الصلح، وإن كانت تنحصر نتائجه المباشرة بالسياسة الداخلية اللبنانية، إلاَّأنه سيكون بعيد الأثر غير المباشر في العالم العربي. وأول أثر بنظرنا هوتجرؤ الإرهاب الفلسطيني على إغتيال الملك عبدالله.

وقتْل الملك يُحدث مشكلة داخلية أردنية من حيث وراثة العرش، ويغيِّر مركز الإنكيز في هذه البقعة من الأرض. ويزيد صعوبة على الصعوبات التي تلاقيها هذه الدولة في إيران ومصر.أما سوريا فالحالة فيها غير مستقرة وقد تتأثر بما حصل لإحداث إنقلاب جديد. أما لبنان فالإستقرار السياسي موجود فيه والحمدلله. غير أن العوامل الخارجية قد يكون لها مفعولها في سياسته الداخلية. وكل تغيير في الوضع الجغرافي أو السياسي العربي سوف يحدث له مصاعب جمة لا تقدَّر عواقبها.وقد ينتظر العراق مثل هذه الفرصة السانحة لتغيير الوضع الراهن.

وقد كانت فكرة سوريا الكبرى قد إستُبعدت نوعاً ما بعد مصرع الملك عبدالله ففكرة الهلال الخصيب قد يكون لها نصيب أوفر أن تتحقق في مثل هذه الظروف، رضاءأو عنوة.

والضرورة تقضي أن تتعاون المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان على تركيز الحالة في الشرق، خصوصاً وأن العالم يرتقب أحداثاً خطيرة للغاية، والعلة الكبرى أن علائق مصر ساءت مع الإنكليز لدرجة تشغل البال. فعدا عن مطالب مصر الأساسية من جهة الجلاء ووحدة وادي النيل، نشأت مصاعب أُخرى منها مرور ناقلات البترول عبْر القنال، وتفتيش البواخر الإنكليزية، مما قد جعل الإنكليز يفكرون جدياً بوقف المفاوضات الأساسية، كما أنهم سيهدفون حتماًإلى إضعاف النفوذ المصري على الدول العربية، وقد يحدو بهم الظرف إلى تشجيع أو بالأقل إلى غض النظر عن تغيير الوضع الراهن في الشرق العربي.

فالإقتراحات التي يقتضيها الظرف الحاضر هي:

إتصال جلالتكم بالإنكليز وبمَن يلزم من الدول الغربية لإبقاء القديم على قِدمه في هذا الشرق العربي.

إتصال جلالتكم بجلالة ملك مصر بالطرق التي تراها مناسبة، وبأسرع ما يمكن من الوقت، وأن تُظهر له المخاطر الناجمة عن الموقف العمومي، وضرورة تفادي أزمة حادة بين مصر وبريطانيا بإيجاد حلول مؤقتة للمسائل الفرعية، كي لا تتوقف المفاوضات أو تُقطع فيما يتعلق بالمطلب الأساسي».

وأما رد الملك عبدالعزيز عليها فإنه بالنص الآتي:

وردني عن طريق الرسول الأمين الجواب التالي:

"إطلَّعنا في كتابكم على آراء فخامة الرئيس بشارة الخوري السديدة في الوضع الحاضر،وقد صوَّر الموقف على ضوء الأحداث الأخيرة كما هو. ونحن نقدِّر لفخامته بُعد نظره وحنكته السياسية كما يجب، ونشترك معه تماماً في خطورة الموقف والمستقبل المليء بالمفاجئات، كل ذلك نظر واقعي لا مشاحة فيه، ولكن في الموقف نفسه نرى غموضاًوفتره من الإندهاش والتوقف في الأفق، وهذه الحالة لا بد أن تنجلي بصورة واضحة، وبعدها يمكن للإنسان أن يتجه إتجاهاً يسير فيه بخطى ثابتة.

وإذ نذْكر له نظرتنا هذه فليس معناه إننا لم نشترك معه في تقدير خطورة الوضع الحاضر، وأن نبقى مكتفي الأيدي، ولكن نعتقد بوجوب ترقُّب الأحوالعن كثب إلى أن  تحدُث بعض البوادر التي تنير الأهداف، وحينئذ يتسنى لنا وجهة العمل ولا نخطي خطوات فاشلة.

هذا ما نرتئه الآن في الظرف الحاضر، ومع هذا فإن الإبن فيصل سوف يسافر إلى لندن في هذه الأيام ولا بد أنه ينتهز الفرصة إذا بدرت له ويتكلم مع الإنكليز حسب ما تكون الحالة والظروف في الوقت الذي يكون فيه هناك. ونحن نشكر فخامة الرئيس على حُسْن ظنه وإعتماده، ونبادله أطيب الشعور وأجمله. كما نرحب بتبادل الآراء من حين لآخر حسب ما تقتضيه الأحوال. وندعو الله أن يأخذ بيد العرب ويقدر لهم ما فه الخير والصلاح".

بعد فترة قصيرة يذكر الرئيس بشارة الخوري أن الملك عبدالعزيز ما لبث أن شعر بخطورة الوضع فإستعجل وألحق رسالته أعلاه ببرقية أورد الرئيس نصها على النحو الآتي:

"أعْلموا فخامة الرئيس بشارة الخوري بمضمون هذه البرقية بطريقة سرية وخاصة: إلحاقاً لكتابنا والملحق تاريخ 23 شوال المرسل لكم..

بعد كتابة ما ذكرناه رأيْنا من الصواب البدء بإتخاذ التدابير اللازمة حالاً وعملْنا برأي فخامة الرئيس الخوري، وأحضرْنا ممثلهم هنا وصارحناه بعدم موافقتنا على إتخاذ أي تدبير يخل بالوضع الحاضر، وأفهمناه أن من مصلحتهم المحافظة على الأوضاع الحاضرة في البلاد العربية. وطلبْنا ليُفهم حكومته بذلك. وأننا كلفْنا الآن فيصل ليبحث معهم مفصَّلاً عن وجهة نظرنا. أيضاً أحضرْنا الأميركاني وأفهمناه كل ذلك. وزيادة حذرناهم من النتائج وطلبْنا أن يبحث مع حلفائهم وينصحوهم أيضاً للسعي بالتفاهم مع مصر. وقد رتبنا المخابرة مع صاحبنا حيث هو (ملك مصر) وأفهمناه مفصلاً عن الأخطار. ولكن نحن في شك من قدرته على العمل، خصوصاً ورجال حكومته متطرفون. ولا أعلم إذا كان يقدر على إقناعهم بالإعتدال. هدانا الله وإياهم لإتباع ما فيه خير العرب".   

عبدالعزيز

ختاماً يشير الرئيس بشارة الخوري ربطاً بهذه المراسلة "إلى أن بعض الأمراء من أبناء الملك عبدالعزيز مصطافين في عاليه فدعوتُهم إلى تناول الطعام على مائدة الرئاسة وآنستُهم حتى شعروا أنهم في بيتهم".

 وخلاصة القول إن تبادل الرسائل لم ينقطع وبالروحية المشار إليها. كما أن ما هو ثابت ماضياً مستمر ثباته حاضراً على نحو ما نستخلصه من الرسائل المتبادَلة والمثبتة برسم اللبنانيين وبالذات مَن يسوس أمورهم ويمارس الدبلوماسية التي تصون الوطن، في مذكرات الرئيس بشارة الخوري. تلك هي خيمة الملك عبدالعزيز يلوذ بها الذين إذا أصابتهم مخافة على الوطن يطرقون الباب ويُفتح لهم من جانب الأبناء والأحفاد من بعده. والله الهادي.

فؤاد مطر