الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تجارب رائدة برسم ذكرى الأمير الغائب الحاضر

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأحد 20/6/2021

من محاسن الصدف أن طاولة مستديرة جمعتْنا يوم الأول من يونيو/حزيران نحن أربعة من المحاربين القدامى في صحيفة "النهار" التي طالما كانت شمسها ساطعة وتتجاوز حدود الوطن الصغير لبنان إلى الأوطان العربية الكبير منها والأكبر، أو الدول الشقيقة على نحو ما دأب اللسان العربي الرسمي على تسميتها ثم تعصف الأزمات والخلافات وتصل إلى حد إلحاق الأذى من جانب الشقيق بشقيقه، وتصبح كلمة الشقيق أو الشقيقة عصية على التلفظ.

لكل من المحاربين الأربعة إنجازاته على مدى حقبة نهارية من ثلاثة عقود ولكل منهم نياشينه وميدالياته المعنوية التي ليست من ذلك النوع الذي يزين الصدور، وإنما هي عبارة عن إطراءات متقطعة يسمعها بالصدفة من قراء أفادهم ما كتبه، أو من مسؤولين أخذوا في الإعتبار رؤى قلم صحافي عالج قضية وطنية عالقة لم يفطن المسؤول إلى ما فطن إليه الصحافي. والوقائع كثيرة في هذا الشأن طالما كان جنود صاحبة الجلالة السُلطة الرابعة منتبهين لها ومنبِّهين بالتالي بها.

بدأ المحاربون القدامى الأربعة الحديث عن شمس الدولة اللبنانية التي باتت قريبة من الغروب مثخنة بإذلال أُولي الأمر السياسي والحزبي والحركي والتياري لها والتمثيل بمهابتها وكذلك بكرامات الناس، وإلتقوا على أن المناخ الذي كانت عليه صحافة الخمسينات والستينات والسبعينات وبعض الثمانينات مثَّلت بالواجب الريادي الذي كانت تقوم به الجرس الدائم الرنين الذي ينبه أهل السُلطة إلى إعوجاج إدارتهم للدولة وتعاطيهم السياسة الملتبِسة أحياناً مع الدول العربية. بل من الجائر القول إن لبنان السُلطة الرسمية وبكل رئاساته كان قوياً أيضاً بالسُلطة غير الرسمية.. السُلطة الرابعة. وبفضل هذه السُلطة بدا لبنان الصغير كبيراً بالمفهوم المعنوي في عيون الأشقاء، وبات بالتالي الحرص عليه عفوياً ولنا في نوعية تعامُل كل من مصر والسعودية معه ما يوضح ذلك. فالرئيس جمال عبدالناصر أراد من لقاء الخيمة على الحدود اللبنانية – السورية بالرئيس فؤاد شهاب (جنرال موضع رضى الله والشعب اللبناني عليه) تثبيت مبدأ أن سيادة لبنان يجب ألاَّ تُمس وأن العلاقة معه تكون تحت خط السيادة، أي بمعنى آخر إن عبدالناصر الذي كان زمنذاك في قمة شأنه الزعامية رئيساً لدولة الوحدة، لم يفعل ما فعله النظام السوري الأسدي الذي نقل لبنان من خانة الندية إلى خانة البلد الملحق كما غرفة العمال في الحديقة السورية المترامية الأطراف. هذا قبْل أن تنتهي سوريا راهناً بأطراف مجتزأة. وأما المملكة العربية السعودية فأرادت أن يكون لبنان صديقاً مؤتَمناً وآمناً ودائم الإزدهار يتفقده أولو الأمر في المملكة زواراً لتمتين العلاقة والصداقة وتثبيت الطمأنينة وليس إجتياحاً. وعندما تسوء الأحوال ويصل الوطن بعد توعك طارئ إلى حافة التبعثر فإنها وبكل نخوة مقرونة بواجبات مراعاة الخاطر والكرامة إعتبرت الطائف توأم إحدى مدن لبنان فيلتقي فيها الذين لا يجدون إلى التوافق سبيلاً في وطنهم. وبطبيعة الحال فإن المكان وأصحابه بما في نفوسهم من حرص على لبنان، جعل اليسر يتقدم على العسر وينتهي المستحيل إلى ممكن متجسداً بإتفاق يحتاج حالياً إلى مبادرة من خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان الذي تحتضن ذاكرته لبنان في سرَّائه وضرّائه لإرواء إتفاق الطائف بتفسيرات وإجتهادات وإلتزامات، خصوصاً بعدما تَزايد التعامل الكلامي في شأنه بمفردات غير وطنية بما فيه الكفاية.

حول هذا كله كان للمحاربين القدامى جولة أفق، وبدت الطاولة المستديرة وكأنما هي جلسة عمل، أو مجلس تحرير كذلك المجلس الذي كان يعقده غسان تويني في محرابه وسبق أن كان يعقده كامل مروة قبْل أن تأخذ "النهار" المكان والمكانة برحيله إغتيالاً شُلَّت أيادي الفاعلين والمحرضين والمهلِّلين، ويخوض غسان تويني ﺑ "النهار" دوراً وُصِفت فيه بأنها صحيفة العالم العربي لدى اللبنانيين وصحيفتهم لدى الأشقاء العرب، ومارست بهذا الدور واجباً قومياً إلى جانب الواجب المهني. ولكي لا تكون متسابقاً وحيداً في الميدان، فإن نزول الصحافي المُعارِك والمعترِك طلال سلمان إلى الحلبة من خلال صحيفة "السفير" صوت الذين لا صوت لهم شعاراً لها إلى جانب صوت ديك "النهار" الصادح، رسم في المشهد السياسي من النافذة الإعلامية حالة مشهوداً لها إتسمت بالرقي وعززت لا مذهبية السُلطة الرابعة. فقد إلتقى اليمين مع اليسار وبينهما الوسط ومن كل المذاهب والهويات العربية. إحتضنت الإثنتان تكمل الواحدة الراسخة الجذور شقيقتها الحديثة الإطلالة ومن دون هواجس المنافسة، قامات فكرية وسياسية وثقافية، وأنتجتا جيلاً واعداً من الصحافيين والكتَّاب لم يأخذ ما فيه الكفاية نصيبه لأن شرايين الإعلام الورقي بدأت تعيش حالة تعب إنتهى بإنزال هذا الإعلام من العالي إلى مرتبة الكفاف. وبقي دوْر الصحافة اللبنانية عموماً وبالذات العلامة الفارقة فيها المتمثلة ﺑ "النهار" و "السفير" مجرد تاريخ يأتي الحديث حوله في مناسبة كتلك التي جمعت المحاربين القدامى الأربعة حول طاولة مستديرة في مقهى كانت حاله من حال زمن العز الصحافي الذي عاشته الصحيفتان وباتت الحال من حال الزمن البائس الذي يكبل أحلام اللبنانيين المسكونين بدوام التطوير.

المحزن أن هذا التراث الصحافي اللبناني بما تمثله "النهار" الباقية بأمل إستعادة التألق الماضي، لم يؤرَّخ بحيث يتعرف الجيل الآتي والجيل الوارث عليه، أو "السفير" التي إعتبر ناشرها طلال سلمان أن إسدال الستارة طوعاً يبقى أفضل من المكابرة فأسدلها وآثر تمضية التأدية للعلى الصحافي من خلال موقع إلكتروني.. الموقع الذي تزايد إنتشاره وشكَّل ضغوطاً أوجبت الأخذ بصيغة ختامها إنهاء تجربة "السفير". ومن خلال الموقع الإلكتروني من مكتبه يكتب حول  ما زال يؤمن به.

في ذلك اللقاء حول الطاولة المستديرة تحسَّر المحاربون القدامى في "النهار" على أن "جنرالهم" الطيِّب الذكر رحل من دون أن يكتب تاريخ "النهار" وتجربتها الرائدة والإكتفاء بموجز عن هذه التجربة على نحو ما فعلت "الأهرام" و "روز يوسف" و"المصور" في مصر. ربما كان في صدد ذلك لولا المداهمة القاسية له من المرض.

وشمل التحسُّر أن زميلهم "جنرال" صحيفة "السفير" لم، أو لا يفعل ذلك، مكتفياً بالتأمل في ما أنجز.

والقول إنه تحسُّر على أساس أن كتابة التاريخ المسهب لتجربة كل من "النهار" و "السفير" ومعها كتابة تجربة "الحياة" الرائدة، هي عملياً تدوين جانب من تاريخ لبنان اللبناني ولبنان العربي.

مَن في إستطاعته تعويض ذلك؟

كان كل من المحاربين الأربعة يتمنى لو أن الظروف تسمح. لكن فرنسوا عقل على أهبة التسعين وفؤاد مطر في الثانية والثمانين وسمير عطاالله على الطريق نفسه. كل منا يعيش ظروفاً ومعاناة شخصية وإهتمامات كتابية وقلقاً مستديما على الوطن. ثلاثتنا من الجيل الثاني في "النهار" فيما غسان شربل هو أحد نجوم قلائل من الجيل الثالث دفعت بهم تجربة "النهار" إلى مكانات متقدمة أكثرها إبهاراَ ترؤس تحرير الخضراء.. صحيفة "الشرق الأوسط" التي يا ليتها بالطاقم الصحافي الرحب تعمل على كتابة تجربة الخضراء الرائدة كأول صحيفة عربية ودولية وهذا في حد ذاته ظاهرة جديدة بالنسبة إلى الإعلام العربي فضلاً عن أنها تجسد إعلامياً وحدة عربية مستقرة. كما يا ليتها تشمل في الكتابة تجربة الصحافة اللبنانية من خلال النموذجيْن: "النهار" والسفير" كظاهرتيْن لافتتيْن.

وأختم بأنه في يوم الإثنين 22 يوليو/تموز تصادف الذكرى الثامنة عشرة لرحيل رمز سجَّل إضاءات في سماء الإعلام العربي وكان رحمة الله عليه كما كنا نسمعه في لقاءات متيسرة معه مسكوناً بإعداد جيل صحافي يضفي إلى ما أنجزتْه أجيال عربية إعلامية وبحثية النهج التطبيقي ورفد المهنة بمهارات تتجاوز ما هو مألوف وتقليدي. ولطالما كان يقول عند اللقاء به بصحبة زميلنا الرائد الإلكتروني عثمان العمير ما معناه إن كتابة تاريخ الصحافة العربية واجب ملقى على جيل بعد جيل.

في إستمرار نفتقد الأمير أحمد الذي عوَّضنا الأمير فيصل روُى تطويرية سرعان ما احتاجت إليها الخطوات النهضوية يتوالى إنجازها منذ أن كان تعيينه أميراً للمدينة المنورة مستلهِماً في خطواته تلك نهج والده خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان أيام كان أميراً للرياض.

ويبقى القول إن هذه السطور التي حبَّرتها في شأن ظواهر صحافية تحتاج إلى توثيق هي برسم ذكرى الأمير الغائب الحاضر أحمد بن سلمان الذي أذكره بالخير.. كما كل من عرفه.

فؤاد مطر