الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

فلسطين الشاردة بين عبَّاسيْها

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأحد 27/6/2021

بات لفلسطين عبَّاسان.. عبَّاسها محمود الذي يترأس سُلطتها المأمول تحوُّلها إلى دولة، ويتخذ من رام الله مقراً لرئاسته التي أتعب خدها الأيمن اللطم من جانب الممسكين بزمام الأمور في غزة، وكدَّم خدها الأيسر الرهان الحمساوي والجهادي )بمرجعيته الإيرانية( على إنتزاع الريادة فالسُلطة، وعبَّاسها منصور الذي سجل مفاجأة لم تكن في الحسبان وهي أن "الحركة الإسلامية" التي يترأسها ساهمت في إسقاط نتنياهو. وعندما يصبح لهذه الحركة موقع في الحكومة إختير له منصور عبَّاس ليكون نائب وزير في مكتب رئيس الحكومة ويتخصص في شؤون العرب، فهذا معناه أن ملفات عرب 1948 بما تحويه من وثائق الولادات والممتلكات والإنتهاكات لن تبقى حصراً في عهدة الإسرائيلي الذي تلاعب بما في الكفاية في هذه الملفات في غفلة عين فلسطينية مسؤولة، ثم يحل منصور عبَّاس في المنصب الحساس الذي أُسند إليه وبذلك يكون الشاهد على حقائق مخفية، وبالذات بالنسبة لألوف العقارات التي جرى الإستيلاء عليها وباتت ليهود الشتات والسُلطات الإسرائيلية. ولقد آن الأوان للسعي بغية تصحيح الأمور وعودة الحقوق إلى أصحابها.

ما نريد قوله هو أن توطيد العلاقة من جانب عبَّاس السُلطة الوطنية مع عبَّاس المشارك في الحكومة الإسرائيلية الحديثة الولادة القيصرية، كفيل بتحقيق فوائد مرجوة. والذي يسهِّل حدوث هذا التوطيد أن قنوات الإتصال والتنسيق في بعض المسائل قائمة بين السُلطة والحكومة الإسرائيلية وليست بمثل الجفوة التي هي عليها العلاقة بين السُلطة الوطنية وحركة "حماس". فهذه الأخيرة تعتبر نفسها مشروع دولة منقلبة على السُلطة الوطنية فيما تطلعات "الحركة الإسلامية" التي يمثِّلها منصور عبَّاس هي الإهتمام بالفلسطينيين الذين صمدوا وتناسلوا ودرسوا في مدارس وجامعات إسرائيلية وهو واحد من هؤلاء. ومعنى ذلك أن ما يمثِّله عبَّاس "الحركة الإسلامية" يختلف من حيث المشروع السياسي وبما يرتاح إلى ذلك عبَّاس السُلطة الوطنية، خصوصاً أن من شأن التنسيق بينهما إحاطة السُلطة الوطنية الفلسطينية بما لا تدريه عن أحوال فلسطينيي الداخل.

إلى ذلك إن عبَّاس الآخر منصور طبيب الأسنان القريب من فلسطينيي أجيال ما بعد 1948 سجَّل بما إختاره كشريك في عملية إنتخابية بالغة الأهمية من حيث التحدي، إمكانية نمو "لوبي" عربي شبيه ﺑ "اللوبي" اليهودي في أكثر من ولاية أميركية وإستطاع مع الصمود وكثرة التجارب أن يتحول إلى ورقة فاعلة في إختيار هذا الحاكم أو النائب أو عضو مجلس الشيوخ في الدولة الأعظم. ومع الوقت من المتيسر في حال لقي منصور عبَّاس عدم الحذر منه بل وتشجيعه أن يؤسس داخل دولة إسرائيل لمثل ذلك "اللوبي" الذي نشير إليه ويحقق بالتالي خطوات على طريق الإقرار بقيام دولة فلسطين عاصمتها القدس الشرقية وهذا أقدس الحقوق التي لا تطبيع حولها وإن طال الزمن. وعندما يقول نفتالي بينيت المقتدر مالياً مما أفاده في خطْف الرئاسة بصوت واحد (في عملية مشابهة كتلك التي خطف فيها سليمان فرنجية (الجد) الرئاسة من الياس سركيس بصوت في إنتخابات جرت يوم  17 أغسطس/آب 1970) إنه يتعهد  بفتح صفحة جديدة مع فلسطينيي 1948، فإن تحويل القول إلى فِعْل  وبتعاون صادق ومُساند من جانب أميركا بايدن، لا يعود مستعصياً. فالرجل على ما يبدو ليس محبذاً صيغة جنوب أفريقيا ويرى إستباق إقتحام نلسون مانديلا فلسطيني الساحة ذات يوم.

وإلى ذلك إن عبَّاس الشريك في الحكومة الإسرائيلية المأمول منها فهْماً وتواضعاً في التعامل مع العرب عموماً والشعب الفلسطيني شريك العيش اليومي على أرض واحدة،  سيشجع بخطواته التي خطاها آخرين خصوصاً أنه لم يحقق مكسب التطوير بفعل صواريخ أطلقها أو هدد بإطلاقها وإنما بفعل حَراك شعبي وخدمات أداها للناس وعدم حذر تجاهه من جانب قطبيْ الحكومة الجديدة التي أرست التناوب صيغة إستقرار للحُكم جديدة من نوعها، وربما تصلح نموذجاً لمن يواجهون عسراً وتعقيداً في تشكيل الحكومة على نحو ما هو حاصل في لبنان، حيث هنالك تشابه جزئي لجهة الأحزاب والقوى والإرادة المخطوفة بين الحاصل في لبنان ويُستعصى حله وبين الذي كان حاصلاً في إسرائيل وأمكن فك طلاسمه وبحيث بات التوافق يستوجب تقاسم رئاسة الحكومة. وما نعنيه بالصيغة الحكومية الجديدة، حكومة التناوب بحيث يرتضي الحليفان الصيغة بكامل الرضى، يضاف إلى ذلك أنها تقطع الطريق على البقاء الطويل وإلى درجة أن ترؤس الحكومة يتحول إلى مستوطنة على نحو ما حصل مع نتنياهو الذي من طول بقائه رئيساً للحكومة لم يعد يتحمل فقدان المنصب بعد خمس عشرة سنة قضاها مترئساً وأن صحوة سياسية حدثت وقضت بأن يشارك طرفان الحكومة ويشرِّعان أبواب النوايا غير الشريرة أمام طيف عربي شاءت الظروف أن يكون في الوقت نفسه من التيار الإسلامي. ونشير هنا إلى أن ترمبية نتنياهو أخذت مداها لجهة رفْض حالة فقدان المنصب، وهذا ظهر من خلال عدم تسليم نتنياهو المكتب الرئاسي بما فيه من أوراق فضلاً عن عدم التهنئة. وإذا صح ما قيل أنه أتلف أوراقاً من الواجب أن يحتفظ بها المغادر ويسلِّمها للآتي من بعده، فهذا يعني أن نتنياهو على موعد مع مساءلة جديدة تضاف إلى ملف كامل من المساءلات التي قد تنهيه كما الذي أصاب أولمرت من قبْل.

لقد طُويت صفحة نتنياهو على نحو طي صفحة الرئيس دونالد ترمب وإن كانت شراهة الإثنين المتحابيْن للسُلطة وعوائدها ما زالت حاضرة في مخطط عودة كل منهما إلى كرسي الرئاسة. وبطي هاتيْن الصفحتيْن تتراجع بعض الشيء التعقيدات في ما يخص الموضوع الفلسطيني العاثر الحظ وهذا هو المأمول من رئاسة بايدن ومن رئاسة التناوب في إسرائيل، وتختفي تبعاً لذلك ظاهرة التعالي في كل من التوأم الجديد من نوعه ترمب- نتنياهو وإتخاذ القرارات المنقوصة الحكمة. وعندما لم يوجه الرئيس بايدن الدعوة إثر فوزه إلى نتنياهو لزيارة واشنطن بينما سارع إلى إحتضان بينيت عندما إتصل به على الفور بعد أداء اليمين (الأحد 13 يونيو/حزيران 2021) فهذه كانت إشارة إلى ذوي الألباب الإسرائيليين كما العرب بأنه يتمنى ضمناً إنصراف نتنياهو وعلى نحو إنصراف عهد خلَفَه من قبل، أو توأمه الأميركي دونالد ترمب. ومثل هذه المشاعر يمكن قراءتها بين سطور كلام قاله مايك بومبيو وزير خارجية السنوات المؤذية للعرب من جانب الحقبة الترمبية. فهو في خطوة تملُّق سبقت حسم مصير نتنياهو تصرَّف هو الآخر على أساس أن بنيامينهم لا بد سيبقى في موقعه رئيساً للحكومة الإسرائيلية وأن بقاءه سيشكل عنصر إقلاق لإدارة الرئيس بايدن الأمر الذي يساعد في جانب من ذلك ترمب الذي لم يقطع الأمل في خوض معركة الرئاسة بعد أربع سنوات أو أقل لدواع ليست في الحسبان. أما الذي قاله بومبيو ولصحيفة "يديعوت أحرونوت" بالذات لتعميم الكلام على يهود إسرائيل (الخميس10 يونيو 2021) أي قبل ثلاثة أيام من التصويت على إسقاط عهد نتنياهو، فكان الآتي: "خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة لم يكن موقف بايدن صارماً ومطلقاً. إن إدارة الرئيس ترمب كانت ستفعل بشكل مختلف. كنا سنوضح فوراً دعمنا لإسرائيل من دون تحفُّظ". كلام لمصلحة إسرائيل نتنياهو وليس لإسرائيل ذات رئاسة التناوب التي هنالك بعض التفاؤل في ضوء إشراك منصور عبَّاس الإسلاموي وإثنيْن معه فيها، في أن تسجل إدارة بايدن خطوة تصحيح لما خطاه ترمب وكان مخطئاً في حق مصائر أرادها الله للشعب وفي حق أرض لا يملك سُلطة التعامل معها وكأنما هي بضاعة في سوق المقايضات الدولية. والإتخاذ المأمول لخطوة التصحيح تلك يحتاج إلى تعاون عبَّاس رام الله مع عبَّاس فلسطين 1948، ودعوة الإثنيْن فلسطين التائهة الشاردة في غزة إلى الصراط المستقيم. وبذلك تكون الخطوة المتكاملة بمثابة التجربة الأكثر جدوى من سائر تجارب مضت في مسيرة النضال الفلسطيني. والله المعين.

فؤاد مطر