الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

كلمة حق

الارشيف

ثمة خطوات على طريق إعادة قراءة متأنية للتداعيات الناشئة عن المحنة الغزاوية التي من المأمول من حركة "حماس" البدء بها، وعن السلوك الذي إعتمدته إسرائيل نتنياهو وأظهر خللاً بالغ السوء في الموقف الأميركي بنسبة عالية والأوروبي عموماً بنسبة أقل حدة.
ما يتعلق ﺒ "حماس" أنها وضعت الأمر في اليد الإيرانية مع أن المتوقع منها إضفاء مسحة عربية على ما أحدثتْه بدءاً بعملية الأسرى وصولاً إلى ما هي عليه الحال بعد ستة أشهر من الرد على تلك العملية بحرب إبادة وتدمير تحت ذريعة إسترداد أسرى مخطوفين. وعلى رغم تصريحات بين جولة مسؤولين إيرانيين وأُخرى بأن إيران لا علاقة لها بالذي حدث، إلاَّ أن إستيقاظ الأذرع الإيرانية.. أذرع أنشأها قائد "الحرس الثوري" قاسم سليماني كان لها تأثيرها وخصوصاً بعدما أسبغت عليها الدولة الإيرانية من الإهتمام ما جعل المسحة الإيرانية لهذه الأذرع تأخذ شأنها المؤثر في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن، أي الدول العربية الرخوة الخارجة من ويلات الحروب والتدخلات الغارقة في أجواء من الإرتباك المعطِّل إتخاذ القرار السيادي الوطني.
محاولة التبرؤ من البصمة الإيرانية لم تكتسب التسليم بجديتها بعد أن باتت قيادات من "حماس" تؤدي من "لبنان الضاحية الجنوبية" و"لبنان الجنوب الوطن" دوراً أساسياً على الصعيد الإعلامي كما على صعيد الإقامة والمشاركة في التخطيط مع أبرز رفاق السلاح "حزب الله".
ومثل هذه الإستضافة الحزبية لا تلقى على الصعيد الأمني الرسمي أي تحفظات وسبب ذلك هشاشة البنية الكثيرة التصدع للدولة المنقوصة رأساً فيما الجسم يواصل التهالك.
ثم تأتي زيارة رئيس المكتب السياسي ﻟ "حماس" إسماعيل هنية، الذي كان من جملة المستضافين في ربوع "لبنان حزب الله"، إلى إيران مع بعض القياديين في الحركة وإجتماع الوفد يوم الثلاثاء 26 مارس/آذار 2024 بالمرشد علي خامنئي، لتؤكد أن الحضور الإيراني محسوم في أن "حماس" وفي مرحلة ما بعد التأسيس باتت أسيرة الخيارات الإيرانية في عملية الصراع وما لا يتمناه المرء للقائد الحمساوي هو أن يكون الحديث المتبادل بينه وبين المرشد يستهدف الموقف العربي من الذي كابده الشعب الغزاوي وما زالت المكابدة مستمرة. وفي هذا الصدد تستوقفنا المفاجأة المتمثلة بشروق شمس القائد العسكري ﻟ "كتائب القسام" الجناح العسكري ﻟ "حركة حماس" محمد الضيف وبث تسجيل صوتي له جاء فيه دعوته "أبناء الوطن العربي والإسلامي إلى بدء الزحف نحو فلسطين للمشاركة في تحرير المسجد الأقصى". ففي هذا التسجيل ما يعطي إنطباعاً بأن "عسكر حماس" وفي شخص قائدهم محمد الضيف لا يرون الأمور على النحو الذي تراه الزعامة المدنية للحركة المتمثلة برئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية. ومثل هذا الإحتمال حدث ماضياً وبات من سمات الحركات الفلسطينية الرئيسية المناضلة حيث "حركة فتح" باتت إثنتيْن و "الجبهة الشعبية" باتت "جبهتيْن".. ثم ثلاث.
في ضوء هذا المشهد وإقتراباً من واقع الحال يبدو من واجب "حماس" برمزيها "حماس العسكر" و "حماس السُلطة السياسية" الجنوح ولو بخطى متدرجة ومتأنية نحو العرب والتخفيف من أثقال إيران عليهم عل وعسى تسير التطورات في إتجاه يقلل من قتامة أجواء الحيرة في أمر المسار الحمساوي. وعندما يدرج محمد الضيف عبارة "أبناء الوطن العربي" في تسجيله الصوتي فتلك إشارة تنبيه بأن فلسطين تبقى قضية عربية في الدرجة الأولى. وعند إستكمال الوضوح في الرؤية تتبدل أمور كثيرة وثمة باب القمة العربية الدورية الثالثة والثلاثين المستضافة في البحرين بعد بضعة أسابيع، من مصلحة "حماس" إستباقاً للإنعقاد الولوج منه إلى إشعار الأشقاء العرب بأنها جزء منهم وليست فصيلاً إيرانياً من دون أن يعني ذلك أن تقطع علاقة، ذلك أن الزمن الحاضر هو زمن شمولية العلاقات مع إبقائها في إطار الإستقلالية في إتخاذ القرار. وهنا تبدو إعادة النظر أحياناً موجبة وبالكثير من التأني إزاء خلل في طبيعة التعامل.
وإعادة النظر هذه مطلوبة من الإدارة الأميركية ومعظم الحكومات الأوروبية التي ذهبت بعيداً في التعاطف مع الجاني الإسرائيلي فيما الواجب الأخلاقي والمصلحة المتجردة يوجبان الوقوف في الحد الأقصى إلى جانب المجني عليه الذي هو الشعب الفلسطيني في غزة. وما نقصده بإعادة النظر هو أن هذه الدول وبالذات الولايات المتحدة إدارة تلو إدارات لم يكْفها زرع إسرائيل شوكة في حلق المنطقة العربية وإنما ومنذ الإنشاء الخبيث لهذه الدولة أملكوها بعد أرض الآخرين من السلاح مما في مخازن تلك الدول ومن دون فرض محاذير أو شروط إستعمال (على نحو ما كان الإتحاد السوفياتي يفعله مع مصر وسوريا والعراق ودول عربية أُخرى) وهذا جعل إسرائيل وبذريعة البقاء متفوقة عسكرياً على سائر الدول العربية تعلي الصوت على الذين أملكوها من السلاح ما هو الأكثر فتكاً مع ضمانة تزويدهم بالذخيرة لمجرد الطلب ومن دون التركيز على أن أصول موجبات إستعمال السلاح تتزامن مع إمتلاكه. ومثل هذا التعامل زائداً ما فعله بعض القادة الأطلسيين وبالذات الرئيس بايدن الذي سارع الطيران إلى إسرائيل لشد أزر المعتدي هو الذي جعل العالم العربي الصديق للولايات المتحدة ولمعظم الحكومات الأوروبية المتخذة مواقف في السياق نفسه للموقف الأميركي.. إن مثل هذا التعامل أحدث حالة من الجفوة العربية الصامتة إنعكست على نظرة الإحترام ماضياً.. ولولا أن صحوة خجولة ومتأخرة بضعة أشهر من جانب سياسيين أميركان وأوروبيين أعطاها دفعاً الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرس بوقفات نوعية تجمع بين الحس الإنساني والوقفة المتجردة، لكان شعور عدم الإحترام العربي للصديق الأميركي _ الأوروبي سيتعمق حذراً وربما تعديلاً جذرياً في المواقف ثم تأتي جلسة مجلس الأمن وبهتان يد الإمتناع الأميركي عن التصويت تخفف بعض الشيء من الحذر.
وكما أن إعادة النظر مطلوبة من "حماس" بركنيها العسكري والسياسي بتعريب واقعها، فإن هذه الإعادة مطلوبة من الصديق الأميركي _ الأوروبي لجهة الإقتراب من العرب وإن كانوا لا يعلنون مشاعر النفور على الملأ إلا أن الأحاديث على المستويين الرسمي والشعبي تؤكد هذا النفور. وتقريب الصديق الأميركي _ الأوروبي من العرب هو في وضْع إسرائيل في حجم مرسوم المعالم وفي إطار دولة فلسطينية _ يهودية واحدة بتسمية "دولة السلام" أو حسْم الأمر بإنشاء دولة فلسطينية تكون مجردة من السلاح على نحو ما يروج له الرئيس بايد. إنما مقابل تجريد مماثل. وإلى حين الأخذ بإحدى الصيغ تكون كتعبير عن حُسْن النية تقنين العلاقة مع إسرائيل بحيث لا تعود دولة لا ضوابط لها، وربما عدا ذلك وفي حال بقي إملاكها السلاح وتفهّم ذرائعها أن تفعل ببعض الدول العربية غير المستقرة ما إقترفتْه في قطاع غزة وتنفيذاً متدرجاً للحلم التوراتي من النيل إلى الفرات.
هل من تعريب ﻟ "حماس" يستبق قمة قادة بني قومهم في البحرين، وتقريب لأميركا وحليفاتها الأطلسيات من الواقع الذي يخفف من منسوب الحذر العربي الصامت إلى حين لكنه مشروع وقد يشهد من المفاجآت ما ليس في تقدير خبراء الإستراتيجيا. لعل عسى. والله المعين.
فؤاد مطر