نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 2/1/2025
هذا الإستنهاض للضاد المتمثل ﺒ "مجمع الملك سلمان للغة العربية" زادنا أملاً بالحق يسود ضد الباطل ونحن نودع سنة لا أعاد الله على الأمتين ويلاتها، لأنها كانت سنة التدمير والتجويع والإبادة في غزة ولبنان من جانب إسرائيل نتنياهو والذين شدوا من إزره ولم يضعوا حداً لهمجيته. ومن أحدث إنجازات الإستنهاض إطلاق قناة تعليمية بإسم "العربية للعالم للأطفال". وهذا يذكِّرنا بأفكار وإقتراحات صدرت قبل ثماني سنوات عن الدكتور حسن الشافعي رئيس "مجمع اللغة العربية" الذي من أبرز إقتراحاته على نحو ما جاء في مقابلة معه أجرتها الدكتورة رجاء ليلة ونشرتْها صحيفة "الأهرام" عدد يوم الجمعة 18 يونيو/ حزيران 2018. وفي سياق ما يقترحه على الدولة المصرية نراه يطالب "بإستعمال اللغة العربية في جميع وجوه النشاط الرسمي للوزارات والمصالح اليومية والمؤسسات العامة والخاصة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات والنوادي والمؤسسات التعليمية أياً كانت طبيعتها وإذا دعت الحاجة إلى إستعمال لغة أجنبية فعلى الجهة ذات الشأن أن ترفق ترجمة إلى العربية...".
ومثل هذه المطالبة جديرة بالإهتمام بكل دولة عضو في الجامعة العربية المأمول منها إستحداث إدارة ينحصر إهتمامها باللغة العربية، بل ولعله جدير بالإهتمام إذا عقد وزراء الثقافة والتعليم في الحكومات العربية دورة لهم مثل سائر الدورات التي يعقدها في رحاب الجامعة وزراء الداخلية أو وزراء الخارجية أو وزراء الدفاع أو وزراء الصناعة أو وزراء السياحة، ويناقش هؤلاء الظواهر المتصلة باللغة العربية. وفي الزمن الذي إختلط اللفظ بالعربية إلى جانب لغات أجنبية وتحديداً الإنكليزية والفرنسية فإنه بات التنبه مطلوباً لحماية اللغة العربية. وهذا هو المأمول من مبادرات تصدر عن مقامات عربية ذات الشأن حول اللغة العربية على نحو "مجمع الملك سلمان للغة العربية" الذي نفترض أن خادم الحرميْن الشريفيْن إستحضر من الزمن العربي التألق المبهر للضاد في الزمن الأندلسي الغابر وكيف أن باباوات الفاتيكان كانوا يقصدون الأندلس لتعلُّم العربية، وأن مفكراً بريطانياً (روجر بيكون) نُقل عنه قوله "إن من يتعلم العِلم يجب أن يتعلم اللغة العربية". كما نفترض أن إهتمام أمير الشارقة الشيخ سلطان القاسمي يعزز شأن لغة الضاد. ومن مبادرات الشيخ سلطان في هذا الشأن إستكمال إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية الذي يندرج في الرؤية نفسها إزاء اللغة العربية والذي شارك في إنجاز الأجزاء الثمانية الأولى منه حتى الآن عشرة مجامع عربية.
ثمة قضايا ملحة يتطلب الاهتمام بها ونفترض أن "مجمع الملك سلمان للغة العربية" سيعيرها من الاهتمام بالقدر الذي يرى خادم الحرميْن أن حماية اللغة من حماية الوطن. وما دامت الضاد هي اللغة التي نزلت آياتها على الرسول وثمة محاولات من أطراف إسلامية لكي تختلط أبجديتها بأبجدية لغة القرآن الكريم فإن الاهتمام لا يعود مجرد حالة من جملة الحالات في هذا المجتمع العربي أو ذاك، وإنما هو واجب بل وأمانة خصوصاً في عهدة أولياء الأمر.
وثمة مسألة تستوجب المناقشة الهادئة وتتصل بظاهرة نزع محاسن في الكلمة العربية من شكلها، وهو إذا جاز التوصيف أشبه بنزع وريقات صغيرة من وردة ملأى بالأوراق على أنواعها. وزيادة في التفسير نقول إننا على سبيل المثال لا الحصر نرى زملاءنا في "الشرق الأوسط" الذين يهتمون بما يصلهم من مقالات يحذفون الضمات والهمزات والفتحاوات وعلامات التعجب وعلامات الإستفهام من كلمات في المقالات التي تصلهم، ثم بعد ذلك يتم دفع المقالات إلى النشر.
وبصفة كوني أحد كتَّاب الرأي في "الشرق الأوسط" فإنني منذ بدء الإنتساب إلى صحيفة العرب الدولية أبعث بمقالتي التي يأخذ التشكيل ضمة أو كسرة أو فتحة أو سكونة طريقه إلى بعض الكلمات وبالذات التي تحمل معنى غير المقصود وروده، وذلك لتفادي قراءة هذه الكلمة على نحو ما يحدُث مراراً مع قارئي نشرات الأخبار في الفضائيات وتصريحات يدلي بها مسؤولون. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ثمة كلمات ذات معنييْن ومن الأفضل في هذه الحال إعتماد تشكيل الكلمة لتفادي الخطأ في المعنى المقصود. ومن هذه الكلمات (طبقاً) التي عند وضْع كسرة تحت الطاء وسكوناً فوق الباء فإن معناها يختلف تماماً عما إذا نحن وضعْنا فتحة فوق الطاء ومثيله فوق الباء. الطبق هنا صحن أما بكسر الطاء فإن معناها الإستناد إلى أمر ما. من هذه الكلمات ذات المعنييْن أيضاً كلمة (قدر) فإذا وضعْنا السكون فوق الدال يصبح معنى الكلمة بمثل كمية، أما إذا وضعْنا فتحة فوق الدال فإن معنى الكلمة يصبح مفرد أقدار. كما هنالك كلمة (قبل) الذي ﺒ السكون فوق الباء معناها يتصل بالوقت والزمن فيما المعنى إذا وضعْنا كسرة تحت الباء وفتحة فوق الباء يصبح المعنى دلالة على الموافقة. وثمة كلمة (أجل) ذات معنى الدافع فيما معناها إذا وضعْنا فتحة معناها الموت. كذلك هنالك كلمة (الأسرة) التي في حال عدم وضْع الضمة فوق الهمزة يصبح معناها الأسِرَّة أي جمْع سرير كما أن معناها بوضع ضمة على كسرة فوق لا فإن معناها العائلة. وأما كلمة (المعتقل) التي من دون الفتحة فوق القاف فإن من إعتقَل يصبح معتقَلاً، كذلك كلمة (الحُكْم) التي تصبح من دون الضمة فوق الحاء والسكون فوق الكاف بمعنى مَن يبدي الرأي القاطع بين خصميْن أو مشكلتيْن.
لن نضيف المزيد من كلمات الضاد التي تحمل من دون التشكيل معنييْن فهي كثيرة وهي في ذلك تتميز عن سائر لغات العالم على ما يجوز الإفتراض. وقد نجد من يرى أن عدم التشكيل هو بمثابة تخفيف أثقال عن الكلمة. لكن عندما تحمل الكلمة معنييْن فهذا يعني أن التشكيل همزة وفتحة وضمة وكسرة لبعض الكلمات التي تحمل معنييْن هو نوع من التجميل للضاد، أو إذا جاز القول هو "مكيجة" لبعض الكلمات، مع ملاحظة أن قراءة الآيات البيِّنات في كتاب الله لا تبلغ رونقها لو كانت الكلمات من دون التشكيل غير محذوفة الهمزة والضمة والفتحة والكسرة وعلامة التعجب من الكلمات. ومن جانبه أضفى الأمير الدكتور فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز في فترة إمارته للمدينة المنورة جمالية تراثية على كلمات مختارة من الضاد تجسدت في تحويلها من جانب خمسين خطاطاً إلى لوحات فنية وبما يؤكد أهمية اللغة العربية حروفاً وتشكيلاً ونطقاً وجمالية.
ثمة الكثير من التأملات في هذا الذي نكتب حوله ولكن عندما تكون اللغة هي الهوية وهي "قضية أمن قومي" على حد توصف الأمير تركي الفيصل لها، كما على حد قول صالح بلعيد رئيس "المجلس الأعلى للغة العربية" في الجزائر بأن العربية الفصحى بالتشكيل الذي نشير إليه "تستطيع مواجهة العولمة اللغوية"، يصبح من الطبيعي إعادة التأمل في واقعها الراهن خصوصاً أن سنوات من الإستعمار والإنتداب عصفت بأحوال الأمة وإستهدفت من جملة إستهدافاتها اللغة العربية. ونستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر حملة التعريب التي لم تكتمل فصولاً في الجزائر وما أحدثتْه فرنسا على مدى قرن من الإستعمار لها وبالذات في فرنسة اللسان العربي. وثمة واقعة توضح ما نقوله وخلاصتها أن سفيراً لدولة أندونيسيا في الجزائر وكان يتقن اللغة العربية أرسل ذات يوم مذكرة إلى وزارة الخارجية الجزائرية بنص عربي فصيح فجاءه الرد بأن الوزارة لا تقْبل سوى المذكرات المكتوبة بالفرنسية. حدث ذلك في زمن مضى وها هي اللغة العربية تأخذ مداها في المجتمع الجزائري، كما أن تعريب بعض الكلمات المتداولة وقد دخلت المجتمعات عصر الذكاء الإصطناعي مرشحة لأن تكون حاضرة في مصطلحات كثيرة وعند إستعمال كلمات مثل كلمة "إنترنت" بحيث تصبح "شابكة" وكلمة "كومبيوتر" بحيث تصبح "حاسوب".
وهكذا فالأمة على موعد مع المزيد من الإضاءة للغة العربية بحيث تأخذ مداها في رحاب "مجمع الملك سلمان للغة العربية" وسائر المجاميع العربية والإسلامية. يسَّر الله أمر الحادبين على الضاد.
فؤاد مطر