أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 2/1/2025
يرحل الرئيس الأميركي التاسع والثلاثون جيمي كارتر في الساعات الأخيرة من العام 2024 (الأحد 29 ديسمبر/ كانون الأول) الذي كان عام خذلان الغرب الأميركي – الأوروبي للجنوح المتدرج في العالم العربي نحو ترويض الصراع مع إسرائيل، ذلك أن معظم الخاذلين وبموقف صادم منهم يتمثل بنصرة حكومة نتنياهو الممعنة تدميراً وإبادة وتجويعاً في غزة ثم في لبنان فضلاً عن قصف المشافي على من فيها وشمول سوريا الأسدية ثم سوريا المستجدة بإعتداءات، هالوا الصدمات على ما كان العم سام (الرئيس جيمي كارتر) يروم حدوثه وبذلك يندرج إسمه في لوحة صانعي السلام على الأرض وطي صفحات الحروب العربية – الإسرائيلية، وذلك من خلال التسويق العادل للمعاهدة التي عُرفت ﺒ "إتفاقية كامب ديفيد" والتي أبرمها الرئيس المصري أنور السادات وارث الرئيس جمال عبدالناصر، مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن وبرعاية وتنشيط مرفق بوعود أميركية الرئيس جيمي كارتر ثم يتم إغتيال الرئيس السادات وهو بكامل بدلته العسكرية المرصعة بالأوسمة على أنواعها وتذوي التداعيات الناشئة عن الإغتيال المغريات الأميركية، كما تذوي الرياح حقول أشجار لم تينع كفاية ثمارها.
قضى الرئيس السادات نحبه ومن دون أن يكتب مذكرات يوضح فيها حقيقة جنوحه نحو السلام مع إسرائيل بدءاً بإعلان ذلك في خطاب ألقاه في البرلمان المصري (مجلس الشعب) يوم 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 وإنتهاءاً ﺒ "معاهدة كامب ديفيد" ذات الثماني مواد وبتوقيع الرئيس السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن و "الشاهد على التوقيع رئيس الولايات المتحدة الأميركية جيمي كارتر وبتاريخ 26 مارس/ آذار 1979 – 27 ربيع الثاني 1399 ه". واللافت أن بداية المادة الأولى تستبق موجبات إبرام المعاهدة وذلك من خلال عبارة "تنتهي حالة الحرب بين الطرفيْن ويقام السلام بينهما عند تبادُل وثائق التصديق على هذه المعاهدة". كما اللافت أيضاً أن مقدمة نص المعاهدة تتضمن عبارة "إن حكومتيْ جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل تريان أن إطار السلام في الشرق الأوسط المتفَق عليه في كامب ديفيد المؤرخ 17 سبتمبر/ أيلول 1978 إنما قصد به أن يكون أساساً للسلام ليس بين مصر وإسرائيل فحسب بل أيضاً بين إسرائيل وأي من جيرانها العرب كل في ما يخصه ممن يكون على إستعداد للتفاوض من أجْل السلام معها على هذا الأساس".
ما حققه الرئيس كارتر كان جنيْه تكريماً له ﺒ "نوبل للسلام" وطول عمر بلغ المئة عام وعلى نحو ما جرى للدكتور هنري كيسينجر الذي كما كارتر سبقه إلى دنيا الآخرة فقد بلغ المئة عام وكان أكمل ما بدأه كارتر الذي إنتزع مصر من فضائها الأخوي حيث نأى الأشقاء العرب أهل القرار عنها ردحاً من الزمن الصادم للموقف العربي المتماسك من الصراع العربي – الإسرائيلي.
لم يكتب الرئيس السادات مذكراته لكي يتسنى للمصريين وسائر أشقائهم العرب الوقوف على النوايا ودوافع المباغتة، وهذا لأنه قضى إغتيالاً وهو يتابع العرض العسكري لمناسبة ذكرى حرب أكتوبر التي كان توظيفها يتطلب الكثير من التشاور في جميع الدول العربية قبل المسارعة إلى إبلاغ برلمانه أنه مستعد لزيارة القدس كداعية للأخذ بالسلام وفتْح باب سرداب الإعتراف بإسرائيل الذي في رأيه يجب ألاَّ يبقى موصداً بعد حرب 6 أكتوبر وإلقاء خطاب في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) وهو لو كان ما زال على قيد الحياة (رحل عن 63 عاماً) مترئساً المحروسة لكان ربما فعل إنما بقلم أحد القريبين إلى عقله والحرص عليه على نحو ما كانت الحال مع عبدالناصر الذي ناب محمد حسنين هيكل ولمجرد إنقضاء أسابيع على رحيل عبدالناصر على رفد عالم الكتابة والسياسة والنشر بمؤلفات تبدو كما لو أنها مذكرات كان عبدالناصر ربما في وارد كتابتها لولا الموت المباغت راحلاً عن 52 عاماً. وعدم كتابة مذكرات السادات وبالذات حول ما يتصل ﺒ "إتفاق كامب ديفيد" جعل ترمب يروي من طرف واحد عن المعلَن والمستتر من الاتفاق ما لم يتسم بالمصداقية المطلوبة وخصوصاً قوله عن الزيارة التي قام بها بيغن إلى القاهرة بعدما كان تم توقيع "معاهدة كامب ديفيد" إن بيغن إتصل ليحدثه عن الزيارة قائلاً: "بدا بيغن وكأنما هو يغني على جهاز الهاتف صائحاً: "لقد كانت زيارة رائعة فلقد فتح لي المصريون قلوبهم. كانت الشوارع مكتظة بعشرات الألوف من الأشخاص الذين كانوا يهتفون ويصفقون. لقد نزلتُ من السيارة لبعض الوقت وإنخرطتُ بين الجماهير مما أحدث إضطراباً كبيراً لدى رجال الأمن العام. وكان الناس يؤكدون في كلماتهم: "إننا نُحبكم! إننا نحبُكم. لقد كان ذلك خارقاً بصورة مطْلقة...". وبُحكم وجودي في القاهرة ذلك اليوم كمراسل لصحيفة "النهار" فإن الذي يمكن قوله هو تماماً عكس ما قاله بيغن وأثلج صدر رئيس الولايات المتحدة وهو إثلاج تتسم به صدور رؤساء الولايات المتحدة العابقة بإحتضان إسرائيل كمعتدية بدءاً من الرئيس اﻟ 33 هاري ترومان وصولاً إلى الرئيس اﻟ 39 جيمي كارتر الذي زايد على ترمب ﺒ "إهدائه" القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي المحتل إضافة إلى "إهداء" إسرائيل نتنياهو حقها في إعتبار الجولان من نصيبها. وأما عطاءات الرئيس جو بايدن فإنها المزيد من السخاء السياسي والسلاح المتطور وتعطيل أي قرار إدانة لإسرائيل وكذلك عدم تفعيل ﻟ إجراءات إتخذتْها محكمة العدل الدولية ضد نتنياهو الذي سجل الرقم الياسي في التدمير والتجويع وتهديم المشافي على مَن في أسرَّة غرفها من مصابين أو مَن في البرادات من جثث.
خلاصة القول إن الرئيس كارتر والمستشار كيسينجر رحلا متتاليْن وكلاهما باع وإشرى أهم قضايا الأمة، وسبقهما في الرحيل مناحيم بيغن ثم الرئيس السادات وكان يمارس منصبه، وأن التشويق الذي أغدقه الرئيس كارتر على الرئيس السادات من أجل تحقيق سلام مع إسرائيل والثعلبة من جانب هنري كيسينجر الذي زيَّن للرئيس السادات ما تبين أنه من نوع الحصرم، هما ما تدفع الأمة منذ العام 1977 (عام زيارة السادات لبرلمان دولة الاحتلال من دون أي تكليف لا من مؤسسات الحكم في مصر ولا وفق إستفتاء في هذا الشأن) الإرتباك في التوافق على كلمة سواء. ومن معالم هذا الإرتباك أن المباغتة التطبيع يحجب القدرة على إتخاذ موقف حاسم من الإنتهاك الإسرائيلي للعنفوان العربي. ويبقى الأمل معقوداً على الأخذ بالقول – الدعاء المأثور: "أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً وأن يرزُقنا إجتنابه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزُقنا إجتنابه".
فؤاد مطر