الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

عائد الأمتيْن من الشراكة الإستراتيجية

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ السبت 7/12/2024
من الدول التي يتعادل فيها التقدير بين دولتيْن كل منهما في قارة، الدولة السعودية والدولة الفرنسية، بدءا ًمن زمن التأسيس وما وضعه من لبنات لطبيعة علاقات المملكة مع دول العالم الملك المؤسس عبدالعزيز وصولاً إلى الحفيد المتطلع إلى آفاق واعدة من التطوير وفق خطط (رؤية 2030) الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز مستلهماً في ذلك روحية خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز وما قبله الإخوة الخمسة الذين تعاقبوا على سدة القيادة في التعامل مع الرئاسات الفرنسية المتعاقبة وبالذات بادىء زيارات رؤساء فرنسا إلى المملكة فاليري جيسكار ديستان ثم فرنسوا ميتران ونيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند. لكن تبقى زيارة الرئيس (الراحل) جاك شيراك الأكثر لمعاناً في سماء العلاقات بين البلديْن كونه وقف خطيباً يوم الأحد 5 مارس/ آذار 2006 في مجلس الشورى ليقول بمسحة ملحوظة من عمق نظرته للعالم العربي "إذا كانت فرنسا ترغب في تطوير شراكتها مع هذا البلد العظيم فسيكون ذلك عبْر إحترام الهوية والثقافة والمعتقدات". كما كانت له نظرة ثاقبة إلى حالة تنظيم "حماس" الذي فجَّر بعد ثماني عشرة سنة ما يحدث الآن في مسلسل الصراع العربي – الفلسطيني مطالباً التنظيم بالآتي "على حماس الإعتراف بإسرائيل والتخلي عن العنف وإحترام الإلتزامات الداخلية".
وهذا التقدير المتبادل ماضياً وحاضراً بين المملكة والدولة الفرنسية والتوازن في المصالح فضلاً عن جوامع مشتركة في مسألة الأحوال الدولية بما تحويه من صراعات ونقاط تفجُّر تتطلب حصافة القيادة، حدثت بين المملكة والصين وبين المملكة وروسيا. وفي الحالات المشار إليها لم تعد العلاقة الإستراتيجية التقليدية على نحو ما كانت عليه في حقبة مضت قائمة. ثم نرى المملكة وفي خلال سبع سنوات أحدثها العام 2024 تضيف الشأن الإستراتيجي للعلاقة مع فرنسا وبذلك باتت هنالك ثلاث علاقات إستراتيجية من المتوقع أن يشكل ثباتهاوتعميق أسسها ملامح إحداث تعديل جوهري في مشهد مراكز القوى في العالم وبحيث يكون للأمتين العربية والإسلامية حضور وتأثير في المشهد السياسي الدولي.
جاء اللقاء الذي تم في الرياض يوم الإثنين 2 ديسمبر/ كانون الأول 2024 بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في أكثر الأزمان العربية والدولية إرتباكاً. العدوان الإسرائيلي متواصل على الفلسطينيين في غزة وعلى مناطق من لبنان تالياً، والمجتمع الدولي في حيرة ما بعدها حيرة إزاء هذيْن العدوانيْن اللذين كان في مقدور بعض الأقطاب الدوليين، الذين تفهموا منطق العدوان ولم يعطوا المعتدى عليه بعض حقه، أن يكونوا إنسانيين وموضوعيين بعض الشيء ويعتمدوا المنطق في خطابهم والأخذ بوعود حول وجوب قيام دولة فلسطينية، تراكمت على صفحات عهود الذين ترأسوا وإعتمدوا "الفيتو" أداة إفشال أي خطوة موضوعية على طريق الحل الذي يضع نهاية للصراع العربي – الإسرائيلي والإستهانة حتى بقرارات إدانة تصدر عن محكمة العدل الدولية ومن شأن الأخذ بها تطبيقاً لمحتواها لجم مسؤولين مسكونين بالقتل والإبادة والتدمير والتجويع والتهجير.
ثمة أهمة نوعية لهذه العلاقات الإستراتيجية بين ثلاث من الدول الأقطاب أحدثها التي تم إبرامها بين المملكة وفرنسا خلال قيام الرئيس ماكرون ﺒ "زيارة دولة" إلى الرياض بكل ما يعنيه مفهوم هذه الزيارة من حيث أنها أكثر أهمية من سائر الزيارات يقوم بها الرؤساء تبادلاً مثل "زيارة عمل" و "زيارة رسمية" وزيارة ترؤس وفد إلى مؤتمر. وأهمية "زيارة دولة" لا تنحصر في التميز الذي يلقاه الرئيس الزائر من الإقامة إلى طول البساط الأحمر إلى التوسيم، وإنما كون برنامج الحفاوة غير تقليدي، كما أنها تنتهي مكتسبة الطابع الإستراتيجي بمعنى أن الأمر ليس حماية صيغة حكم وإنما إرتباط في أدق درجاته يلقي على الدولتيْن إلتزامات بموجب "الشراكة الإستراتيجية" من أهمها وجوب إعتبار ما يصيب كيان هذه الدولة على الدولة الأخرى تأدية واجب المساندة التي -هي ليست كما مفهوم الحماية. كما أن المشاريع المستقبلية تتأسس وتتنوع وأحدثها ما يتعلق بالطاقات المتجددة والذكاء الإصطناعي وخطة "مياه واحدة" وتقديم المملكة 6 مليارات لدعم 200 مشروع إنمائي في قطاع المياه في أكثر من ستين دولة نامية حول العالم، وتزداد تطويراً بما يتساوى العائد لا أن يكون الشريك الإستراتيجي مستحوذاً على ما هو أكثر من عائد الآخر.
وثمة إفتراض قابل لأن يصبح مضمونه أمراً مأخوذاً به، وهو أنه لا بد من إعادة نظر في صيغة الدول الخمس التي تملك حق النقض للقرارات التي لا ترتاح لها هذه الدولة أو تلك. وهذه الإعادة التي لا بد من أن تتم في ضوء طبيعة موازين القوى وإن طال الأجل وبحيث يكون للأمتين العربية والإسلامية عضوية حق النقض، فإن المملكة العربية السعودية بالخصائص التي تتميز بها وكذلك بورقة العلاقات الإستراتيجية الثابتة التي تحققت مع كل من الصين وروسيا ثم حديثاً مع فرنسا ماكرون الذي سبق أن أقلقت دعوته إلى إنشاء جيش أوروبي الإستراتيجية الدفاعية الأميركية بالنسبة إلى أوروبا، مؤهلة لتكون سادس المستحوذين على "الفيتو" الذي في هذه الحال المتوقعة يصبح الحق العربي الفلسطيني، وبالذات في الظروف الصعبة، في مأمن من الفيتو الأميركي الذي يعود بالخسران على القضية الفلسطينية ويصون إسرائيل التي إحتلت فلسطين عام 1948 بقرار جائر ومتعمد وبصفة الوعد من جانب بريطانيا، وها هي على المنوال نفسه منذ بداية الاحتلال تمارس الإرهاب والقتل والإبادة والتجويع عدا حقبة عابرة بدا للأمتين أن ما سمي "إتفاق أوسلو" هو خطوة البداية على طريق إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي بحيث تصبح السلطة الوطنية دولة رسمية ويطوي الصهاينة الصفحة الأخيرة من ممارسة أسلوب مَن يصادر الحق ضد صاحبه. وهم يمارسون ذلك على أساس أن ما بينهم وبين الإدارة الأميركية رئيساً ومجلس نواب وكونغرس ما هو أهم من العلاقة الإستراتيجية، وهذا حاصل فعلاً بدليل أن ما فعلته أميركا بايدن كان تشجيعاً لإسرائيل نتنياهو على ما بدأه وما يواصل به، مع كثير الأمل بأن تكون الحال مع الرئيس الخلَف دونالد ترمب على درجة من الإنصاف بما يعطي ما لليهود لليهود وما للفلسطينيين لهم.. وإكراماً لإخوانهم العرب والمسلمين الذين يشاركونهم كل بمفهوم ونسبة من التعاطف لمحنتهم التي هي محنة القرن.
ويبقى التذكير بأن طبيعة العلاقة الثابت تميزها بين المملكة وفرنسا شهدت وقفتيْن لافتتيْن من جانب المملكة إزاء أزمة توعك أصابت الميزانية الفرنسية في زمن رئاسة ميتران وأتت مبادرة الدعم السعودي للفرنك الفرنسي تخفف من وطأة تلك الأزمة. وأما الوقفة الثانية فإنها ستتبلور في ضوء "زيارة دولة" التي قام بها الرئيس ماكرون فيما فرنسا تعيش أزمة ميزانية دقيقة وحكومة غير مستقرة أوجبت التطورات إستقالتها ولم يمض على تشكيلها بضعة أسابيع. ثم ها هي العلاقة الإستراتيجية مع المملكة من خلال زيارة الرئيس ماكرون وحُسن قراءة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للأحوال حاضراً ومستقبلاً تضفي طمأنينة تحتاج إليها رئاسة ايمانويل ماكرون الذي كان فوزه بتجديد الولاية الرئاسية (يوم الأحد 24 أبريل/ نيسان 2024) حدثاً مهماً في المشهد السياسي الفرنسي على مدى نصف قرن من الإستحقاقات الرئاسية.
فؤاد مطر