الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

ملامح لبنان التالي

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الإثنين 2/12/2024
يتطلع اللبنانيون بمشاعر الخشية من حدوث صدمة التعثر، إلى الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الخميس 9 يناير/ كانون الثاني 2025، وهو الموعد الذي حدده رئيس مجلس النواب نبيه بري لإنتخاب رئيس للجمهورية. وما نعنيه بالصدمة هو أن يحل هذا اليوم ولا تكون صفحات الرهانات والتحفظات قد طويت ومعها صولات وجولات أطراف التعطيل وعندها لن تحدث "معجزة" إختيار رئيس للبلاد. لكن ثمة كثير الأمل بحدوث المعجزة وذلك في ضوء وقفة لافتة سجلها نبيه بري وارث الزعامة الشيعية ثنائياً حتى إشعار آخر من خلال بيان مناشدة (أصدره بعد إعلان وقف إطلاق النار ومن قبل أن تتعمد إسرائيل نتنياهو خرقه تحت سمع أميركا بايدن وبصر فرنسا ماكرون، وفيما تنشر وسائل إعلامية عبرية ورقة تعطي إسرائيل المعتدية من جملة ما تعطيه من ضمانات لإسرائيل المعتدية الحق وتتجاهل المعتدى عليه لبنان) دعا فيه بعد الشكر لمن آزر بمن في ذلك جنود اليونيفل (القوات الدولية) وبذل من الجهد ما يخفف وطأة المحنة، النازحين الجنوبين إلى العودة إلى أرضهم "وديعة الشهداء" شاملاً في مناشدته كل القوى السياسية والحزبية والكتل البرلمانية (كل يعني الكل وإن هو تفادى التسمية) إلى ما يشبه التلاقي على كلمة سواء. وفي المناشدة عبارات غير مسبوقة قولاً في زمن التحديات ومنها "يا كل الطوائف. يا نعمة لبنان. إنها لحظة الحقيقة التي يجب أن نستدعي فيها كل عناوين الوحدة من أجل لبنان. فاللحظة ليست لمحاكمة مرحلة ولا للقفز فوق الجراح ولا للرقص فوق الدماء ولا لتجاوز التضحيات الجسام الغالية جداً جداً والتي لا يعوضها إلاّ شيء واحد هو أن نحفظ لبنان واحداً قادراً على الخروج أكثر قوة ومنعة مما تعرَّض له. واللحظة هي إمتحان لكل لبناني، للشيعي قبل أي لبناني آخر. هي إمتحان كيف ننقذ لبنان، كيف نبنيه...". وهذه المناشدة ربما شكلت دواعي الزعامة الجنبلاطية في شخص كبيرها وليد كمال جنبلاط لما يجوز إعتبارها "مبايعة" أكثر منها وقفة إعجاب بما قاله صديقه الرئيس بري. والتعبير عن هذه "المبايعة" جاء في اليوم التالي (الجمعة 30 نوفمبر) من خلال عبارة في تصريح أدلى به وهي "التحية كل التحية للرئيس نبيه بري الصديق الكبير والحليف التاريخي...".
كما أن هذه اللفتة من وليد جنبلاط حدثت في يوم مبايعة أكثر تصميماً من جانب الأمين العام ﻟ "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم الذي قال: "الشكر الكبير للمفاوض السياسي المقاوم رئيس مجلس النواب نبيه بري" وإرفاق الشكر هذا الذي شمل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والمرشد علي خامنئي والشعب الإيراني والحرس الثوري، بالتلميح إلى إمكانية حدوث بداية ملامح لبنان التالي، كتلك التي ألمح إليها نبيه بري الذي ينظر بعض الأطراف الدولية والإقليمية إليه على أنه المرجع السياسي الوحيد المزكى مذهبياً للطائفة الشيعية وأنه يتحرك برحابة كانت لا تحدث على نحو ما يرى في زمن تقاسُم زعامة الطائفة، ثم باتت بعد إستشهاد رجل الحزب القوي حسن نصرالله وقادة الصف الأول في الحزب للطائفة الشيعية ممكنة الحدوث وبالذات في ساعات شدة التفاوض التي أنتجت إتفاقاً يرضي الإدارة الأميركية والرئاسة الفرنسية. أما كيف عبَّر نعيم قاسم عما يجوز إستنتاجه فمن خلال قوله "إن إتفاق وقْف إطلاق النار تم تحت سقُف السيادة اللبنانية ووافقنا عليه ورؤوسنا مرفوعة بحقنا في الدفاع. سيكون عملنا الوطني بالتعاون مع كل القوى التي تؤمن أن الوطن لجميع أبنائه، وسنتعاون ونتحاور مع كل القوى التي تريد بناء لبنان الواحد في إطار إتفاق الطائف، وسنعمل على صون الوحدة الوطنية وتعزيز قدرتنا الدفاعية وجاهزون لمنع العدو من إستضعافنا".
ولقد كان مأمولاً من الطيف الذي يتصدر قيادته الدكتور سمير جعجع أن يكون رد فعله في اليوم نفسه على كلام الشيخ نعيم قاسم عبارة عن وقفة من التأمل الذي يحقق نوعاً من المثابرة على إنتهاج "حزب الله" إستراتيجية معدلة للتي كان عليها، وبالذات لجهة إتفاق الطائف والجيش والسلاح، سيما وأن مفردات كلام الأمين العام الوارث تُجاهر بإحتمال التعامل مع الأطياف الأُخرى ما دام ذلك سيبلور ملامح لبنان التالي. لكن الدكتور جعجع إعتمد الخطاب الثابت ﻟ "القوات اللبنانية" مضيفاً مفردة غير مسبوقة في تعليقاته وبيانات حزبه ماضياً وهي إعتبار "وحدة الساحات" التي هي إحدى وسائل المواجهة التي طالما إعتمدها "حزب الله" ودفع لبنان "الساحة" الثمن أرضاً وأرواحاً وإقتصاداً متراجعاً وآمالاً مقصوفة "نظرية خنفشارية". وهذا التوصيف المستحدث على كلام الدكتور جعجع في المناسبات الحزبية واللقاءات الصحفية، والذي يتعامل مع الضاد بإلتزام ملحوظ لفظاً ونحواً كما زوجته عضو مجلس النواب ستريدا جعجع عندما تتحدث أو تلقي تصريحات، يحتمل تفسيرين أحدهما سلبي لجهة أهمية القول والقائل، والآخر يقال لمن يتطلع إلى التعاظم. ولقد أعادني إستعمال الدكتور جعجع عبارة "وحدة الساحات نظرية خنفشارية" إلى زمن كان عبدالعزيز سيد الأهل عضو بعثة تعليمية مصرية يدرِّسنا أصول اللغة العربية لطلبة المرحلة الثانوية في كلية المقاصد الإسلامية، وعند ورود كلمة الخنفشارية في أحد الدروس أمضى ساعة في شرح الكلمة وخلاصتها أن قائلها في الزمن الغابر شاعر يمني وأنها وردت في بيت شعري له أراد تضمينه كلمة الخنفشار التي هي نبت طيب الرائحة إكتشفها رعاة الإبل الذين لاحظوا أن لبن الإبل يعقد بعد رعي نبتة الخنفشار. وجاء قول الشاعر "لقد عقدَت محبتكم فؤادي.. كما عقدَ الحليب الخنفشار". وإلى هذا التعريف كانت نصيحة أستاذنا المصري عدم إستعمال هذه الكلمة في سياق التخاطب أو الكتابة وإستبدالها بما هو أرق حروفاً ومعنى ولفظاً... إلى أن فاجأنا الدكتور جعجع بلفظها لغرض في النفس، بأمل أن يتلقفه الشيخ نعيم قاسم الذي قد يجد نفسه يؤدي في مهمته كوريث لقيادة كانت معقودة للسيد حسن نصرالله حتى إستشهاده مع رفاق من الصف الأول في قيادة "حزب الله" ما وجد الرئيس المصري حسني مبارك نفسه يمارسه وريثاً للرئيس أنور السادات، الذي قضى هو الآخر شهيد إستراتيجية لم تأخذ في الإعتبار وحدة الموقف العربي من مغامرة السلام مع إسرائيل التي أقدم عليها متعجلاً وغير متشاور مع سائر الساحات.
ما يمكن إفتراضه مزدوج الإحتمال. بداية تحتاج ولادة لبنان التالي إلى إنجاز الإستحقاق المهم أي إنتخاب رئيس للجمهورية.. إنما ليس أي رئيس، ذلك أن تجارب أي رئيس على مدى نصف قرن لم تكن مشجعة وكان الوطن ساحة صراعات وأطماع عربية حسم "إتفاق الطائف" أمرها لبعض الزمن ثم عادت النار إلى الإشتعال بالتدرج.
وأما الأكثر أهمية فإنه ما بعد إنتخاب الذي ليس أي رئيس، بمعنى أن لا يكون محسوباً على حزب من الأحزاب أو رهينة لتلبية تطلعات خارج الحدود. كما أن يكون رئيس البرلمان في لبنان التالي مستقلاً تمام الإستقلال يمثل طائفته بحكم توزيع المناصب السيادية إنما ليس رئيس حزب ولا مرشح كتلة حزبية.
وأما رئيس الحكومة فمن الطبيعي أن يكون قائد فيلق إعادة بناء ما تم تدميره والسعي لحقبة تشبه في بعض نتاجها تلك التي شغلها الرئيس رفيق الحريري، وبحيث لا يلقى رجل الحقبة الجديدة المأمولة ما لقيه رفيق الحريري الذين إستشهدوه في الوقت الذي كان هو الأمل المنشود لوضع الوطن على سكة السلامة الدائمة.
وأما الصراع مع إسرائيل فأمره متروك للجمع العربي يقرر ما يراه حلاً دائم الثبات للمنطقة من المحيط إلى الخليج لمجرد قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وثمة مدعاة للتفاؤل في ضوء ما إتخذتْه القمة الخليجية الخامسة والأربعين في الكويت يوم الأحد 1 ديسمبر 2024 من قرارات وتوصيات في شأن حرب الإبادة والتجويع من جانب إسرائيل نتنياهو في غزة وكذلك إدانة إستمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان وترحيباً بوقف إطلاق النار الذي تم إنجازه وبات قيد الإختبار لجهة الإلتزام به، وتأكيد دعم المساعي التي بذلها ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الذي إستضاف القمة العربية الإسلامية (11 نوفمبر 2024) لجهة وقف الحرب على غزة وتحقيق السلام الدائم والشامل، وتعزيز التحرك لتنفيذ حل الدولتيْن وفق مبادرة السلام العربية.
وثمة بعض الأمل المعقود في ما إنتهت إليه قمة الكويت، وقبْلها قمم الأمير محمد بن سلمان على مدى أربع سنوات، على الرئيس الأميركي العائد قوياً دونالد ترمب لجهة تصحيح ما تراكم من مواقف أميركية متصهينة. عسى ولعل يكون الرئيس السابع والأربعين عند حسْن التفاؤل عدلاً وإنصافاً وتصحيحاً به من جانب الأمتين.
فؤاد مطر