الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

التداوي من عُسْر إعتماد "إتفاق الطائف"

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الإثنين 25/11/2024
من واجب أهل السياسة المنخرطين وراثة أو حديثي عهود وكذلك الذين نفوسهم أمَّارة بحضور في المشهد السياسي، والحزبيون من هؤلاء بشكل خاص، التأمل بقول الرسول "الخروج عن الوطن عقوبة" وإستحضار "إتفاق الطائف" والتأمل في مضمون بنوده عند كل بوادر إختناق من شدة الأزمة، وما أكثرها على مدى رئاسات أعقبت إنتخاب الرئيس الأول المستهدي ﺒ "إتفاق الطائف" رينيه معوض الذي قضى بعد 17 يوماً من إنتخابه في مؤامرة إغتيال (يوم الأحد 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989) والذي كان إنتخابه الأكثر غرابة في تاريخ الانتخابات الرئاسية كونه لم يتم في مجلس النواب الرسمي أو في مبنى غير رسمي بديل ومستأجر في العاصمة، وإنما في قاعدة عسكرية في مطار بعيد ساعتين عن العاصمة. لكن الإنتخاب الغريب هذا كان بمثابة الثمرة الأولى ﻟ "إتفاق الطائف" كما أن الإنتخاب أدخل حالة ترحيب إستثنائية لم يحظ بها رئيس لبناني من قبل ولا من بعد، تشبه في بعض دواعيها ذلك الترحيب الذي لقيه دونالد ترمب في الرياض (السبت 20 مايو 2017/ أيار) التي جاءها لتكون المملكة العربية السعودية هي الدولة الأولى التي زيارته الخارجية الأولى كرئيس للولايات المتحدة تتم لها ويلْقى من جانب خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان لفتة إستثنائية تمثلت بعقد ثلاث قمم خلال الزيارة قمة سعودية – أميركية وقمة خليجية – أميركية وقمة إسلامية – أميركية وكتسجيل وقفة إمتنان من جانبه فإنه قال مخاطباً مضيفه ولي الأمر "أيها الملك سلمان أشكرك على خلْق هذه الفرصة العظيمة في التاريخ. إنني أقف أمامكم وأنا أُمثل الشعب الأميركي لأقدم رسالة صداقة وأمل، وهذا هو سبب إختياري أن تكون أول زيارة خارجية لي إلى قلب العالم الإسلامي إلى الأمة التي تخدم أقدس مرفقيْن في دين الإسلام...".
وأما الترحيب السعودي الإستثنائي الذي حظي به رئيس لبناني تم إنتخابه فكان من نصيب القطب السياسي الماروني عضو مجلس النواب رينيه معوض الذي جاء إنتخابه أول رئيس جمهورية للبنان يؤكد نجاعة "إتفاق الطائف" كعلاج وطن كادت تصل حاله إلى مشارف الكارثة التي تؤذيه صيغة وكياناً وسيادة وجيشاً. ولكن من سوء حظ هذا الوطن المبتلى ببعض بني شعبه من سياسيين وحزبيين وميليشياويين وجلباويين ومرتهنين لخارج الحدود يعنيهم الكلام الذي يُحدث ضجيجاً ولا ينتج طحيناً، أن الإرتياح الذي أحدثه إنتخاب رينيه معوض رئيساً ما لبث أن إنتهى صدمة بالغة الشدة بعد تدمير سيارة موكبه عائداً من إلقاء بيانه الرئاسي، وهي نهاية مأساوية حدثت من قبْل للقطب الماروني الحزبي الميليشياوي بشير الجميل الذي بعدما أقسم اليمين الدستورية جرت تصفيته تفجيراً كما واقعة تفجير رينيه معوض.
جاء الترحيب السعودي بعد إعلان اللجنة الثلاثية العربية أو إذا جاز التوصيف "سفينة نوح إنقاذ الوضع اللبناني" من التهاوي، وقوامها خيرة ربابنة السياسة والعمل القومي الحادب والمتجرد (الملك فهد بن عبدالعزيز، العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد) حيث أنه لمجرد أن أنهى رموز دبلوماسية الدول الثلاث البيان الختامي لمداولات لقاءات النواب اللبنانيين في الطائف الذين لبوا دعوة الملك فهد بن عبدالعزيز مرفقاً الدعوة بالتمنيات والتوفيق في مهمتهم إنقاذ وطنهم، فإن التلفزيون السعودي قطع برامجه العادية لبث بيان (من 199 كلمة) كلمة للملك يجمع بين الترحيب والتمني بأن يؤدي اللبنانيون الواجب، كما تسجيل الشكر لشريكيْه في عملية الإنقاذ الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد كذلك التأييد التام لإنتخاب رينيه معوض. وكان الملك فهد قرر تأجيل زيارة سيقوم بها إلى الولايات المتحدة ليزداد طمأنينة إلى أن ختام "إتفاق الطائف" وثيقة ولادة لبنان الطاوي حقبة بالغة البشاعة وإستقبال بديلة لها يرتجى منها الخير هدياً ﺒ "وثيقة الوفاق الوطني في لبنان" التي تم التوصل إليها بكل الرضى بعد ضرورات عابرة من التراضي والتي حسمت ما من المهم حسمه توثيقاً مثل "لبنان وطن سيد حر مستقل وواحد أرضاً وشعباً وهو عربي الإنتماء والهوية" و" إن إلغاء الطائفية السياسية يتم وفق خطة مرحلية تؤدي إلى اللاطائفية" و "بسْط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية". و "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وإنتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية وإتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الإحتلال الإسرائيلي وبسْط سيادة الدولة على جميع أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفصة لعودة الأمن والإستقرار إلى منطقة الحدود...".
ما يراد قوله في هذا الإستحضار لحقبة مضى عليها خمسة وثلاثون عاماً هو أن إتفاق الطائف كان بمثابة دعامة للدستور اللبناني، وأن التعامل معه من جانب بعض العابرين في ساحة العمل السياسي كان يستوجب الكثير من الحس المسؤول إزاء الوطن كصيغة وسيادة بل وكمصير. ومن هنا فإن قراءه متجردة من جانب العابرين أولئك تؤكد كم إن هذا الاتفاق كان في حال الحرص عليه إستيعاباً وتنفيذاً سيُبقى الوطن في منأى عن أحوال بالغة السوء إنتهى إليها. فالإتفاق يؤكد على "لبنان وطن سيد عربي الإنتماء والهوية" والإتفاق ينص على "بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية". وعند التأمل في الصراعات السياسية والحزبية نرى أن الإلتزام بالتحديدات المشار إليها كان سلبياً وكانت دائماً كثرة الكلام الذي لا يعزز الهوية والسيادة ودور الجيش.
رحل رموز إتفاق الطائف الملك فهد والملك الحسن الثاني والرئيس بن جديد ورحل أيضاً بعض الأوفياء للإتفاق من أهل السياسة اللبنانيين ومنهم رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني الذي كان في لبنان بمثابة الحارس الممسك بجرس يذكِّر بين الحين والأحيان بني أقرانه من أهل السياسة بأهمية الاتفاق الذي يعيد التهاون في عدم الإلتزام به لبنان إلى ما هو أسوأ من حال مضت، وها قد حدث ذلك منذ أربع سنين وبلغ نقطة الخطر الشديد منذ ثلاثة أشهر وما زال. وكان من شأن التأمل بمسؤولية لمعنى ومغزى بادرة الملك سلمان بن عبدالعزيز المتمثلة بإيفاد وفد مجلس الشورى في المملكة (وفد وليس مجرد عضو في المجلس) إلى لبنان (الجمعة 21 يونيو/ حزيران 2009) لتذكير أُولي الأمر الروحيين من كل الطوائف وكذلك من يدير أمر الجمهورية الخالية من رئيس لها، بأن المملكة التي أولت السعي لوضع لبنان على سكة السلامة قبل أربعة عقود إحتراب وصراعات هددت صيغته وكيانه وسيادته وتَمثَّل السعي في إتفاق الطائف، ترى من خلال وفد مجلس الشورى التذكير بأمل أن تنفع الذكرى بأن لبنان وبالذات في توعكاته بين الحين والآخر حاضر الرعاية من جانب المملكة في ظل خادم الحرمين الملك سلمان، إستمراراً للحرص إياه كما في ما مضى في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز وبلغ مع رابع الملوك الأبناء فهد مرحلة إنقاذ ما أمكن إنقاذه متمثلاً ﺒ "إتفاق الطائف" السعودي – المغربي – الجزائري كمسعى. وهذا ما يحتاجه لبنان الذي ليس في منأى عن مشارف الهاوية. لكن مع شديد الأسف كان هنالك نوع من عًسْر الفهم اللبناني للبادرة الطية، عِلْماً بأنها كانت فرصة يغني إستيعاب معانيها عما آلت إليه أمور كثيرة. ولكن الحرص من جانب المملكة لا تؤثر فيه بعض الهنات السياسية والحزبية اللبنانية.
عسى ولعل بعد الآن يزول عُسْر الفهم المشار إليه، ويستظل لبنان بمضمون "إتفاق الطائف" الذي تهاون لجهة الأخذ به هدياً وإلتزاماً بعض أهل السياسة والحكم ومعهم مواقف وتصريحات قيادات بعض الأحزاب والحركات من كل نوع وهوية وإنتماء، فكان الهوان الذي يعيشه منذبضع سنوات وبلغ مداه عدواناً وتدميراً ونزوحاً وإحتمالات تجويع من جانب إسرائيل نتنياهو المدان ووزير دفاعه من محكمة العدل الدولية لما أحدثه عدوانهم من طائرات وصواريخ ذكية ما كان ليحدث بهذه الضراوة لو أن إسرائيل لم تحصل عليها من إدارات لا تأخذ في الإعتبار الجانب الإنساني وتجيز لمستعمليها التصرف بضراوة غير مسبوقة على البلد الصديق للولايات المتحدة. عسى ولعل أميركا ترامب الثاني تعوض لبنان وزر الرئاسة التي باق على عدم عدالة مواقفها بضعة أسابيع وينطبق على بعض أركانها، كما على نتنياهو ووزير الدفاع يواف غالانت، قرار المحكمة الدولية عملاً بمبدأ أن المعتدي كما الذي يرتضي عدوانه ويغفره ويزوده بما يحقق مبتغاه الشرير، شريك في العدوان.. وهذا في إنتظار عدالة رب العالمين التي لا قدرة لبشر على الإعتراض أو رفض أحكامها.
فؤاد مطر