نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأحد 24/11/2024
تحل يوم الثاني والعشرون من كل عام ذكرى إستقلال لبنان (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943) بحيث بات حاله متخلصاً من الإنتداب الفرنسي بمثل حال دول شقيقة وصديقة أبرزها الجزائر وبعض دول الخليج. وفيما المواطن في أي دولة مستقيمة الحكم لا تتنازعها الأحزاب ذات التوجهات أو العقائد أو الإملاءات الخارجية، يستقبل بمشاعر الفرح ذكرى إستقلال الوطن وتغمره أحاسيس الطمأنينة بأن خيمته التي يتفيأ في رحابها تستحق منه الولاء وذروة السرور، ينتظر حلول ذكرى الإستقلال للتعبير عما في النفس، متمنياً لوطنه العز والشموخ وفي الوقت نفسه يعاهد هذا المواطن نفسه بأنه على إستعداد لكي يفدي الوطن بروحه عند الضرورة.
مع كثير الأسف لا يعيش اللبناني وبالتحديد منذ أن سجلت بعض من أطيافه وقفة ولاء للغير أجواء الذكرى السنوية للإستقلال، ووصلت الحال بالأطياف هذه إلى أن يوم 22 نوفمبر من العام مجرد يوم عادي من شروق شمسه إلى غروبه ومن دون التفاعل بمشاعر من الولاء والفرح لهذه الذكرى. وهذا عائد إلى أن رؤوس الدولة منشغلون في صراعات يشكل كل من هؤلاء الدور كطرف في لعبة الصراعات تلك. وينقضي بلا إحيائه كحدث وطني بإمتياز والإكتفاء بأن رؤساء الدول يتقبل كل منهم التهنئة بمن فيهم الذين نفذوا لنظام دولة شقيقة ما سُمي ثورة، عِلماً بأنها كانت إقتتالاً بين أهل الوطن الواحد. وخطورة هذا الحدث أنه أدخل لبنان في بوتقة أضاعت مشاعر الفرح ببدء دولة لبنان المستقل المقبولة تبعاً لذلك عضويته في منظمة الأمم المتحدة، حيث بدأ كل طرف عربي أو حتى أجنبي صاحب "أجندة" مراميها توسيع مساحة التزعم يطرق باب الوطن اللبناني وفي معظم الأحيان بدون إستئذان تهيباً من خلال أحد أصحاب الشأن في الوطن، لكي يدخل ويستقر وينشر ألوية طلائعه الحزبية في الأرض اللبنانية، وكأنما الوطن ليس دولة مستقلة وأن الإستقلال يعني عدم إتاحة المجال في أي حال لأصحاب تطلعات حزبية خارجية وأياً كانت أغراض هذا الحزب من الإقامة والعمل في لبنان. فهذا وطن لم يعد تحت الوصاية فاقداً هويته الوطنية وشرعية سيادته لكي يتم إستعماله كما إستعمال ناقلة ركاب من بلد إلى آخر.
وفيما هذه الأحزاب التي تكاثرت تلتزم بإقامة الإحتفالات لمناسبة ذكرى تأسيس هذا الحزب، والتأسيس حدث خارج لبنان، أو لمناسبة لا علاقة لهذا الحزب أو ذاك موطىء أقدام فيه، فإنها في الوقت نفسه كانت غير مهتمة بذكرى إستقلال لبنان مع أن جمهور هذه الأحزاب لبناني، فضلاً عن أنه عندما تكون رؤوس الدولة لا ترى في تلك الذكرى أنها الشتلة الوطنية التي تتم رعايتها على الوجه الأكمل والقيام بأعلى درجات الحفاوة بالذكرى رسمياً كما هو الواجب وشعبياً كما هي المشاعر، فمن الطبيعي أن يحل يوم الثاني والعشرين من نوفمبر من العام ويقتصر إهتمام أُولي أمور الرئاسات والمراتب الأدنى على مجرد عرض عسكري باهت وتعطيل العمل في الدوائر الرسمية في الوقت نفسه.
هنا تستوقفنا حالة غير مستحبة، هذا لتفادي القول إنها غير محترمة، وهي أن لبنان من دون رأس في فترات حدثت أكثر طولاً وإستهتاراً بالدستور وبالميثاق، فضلاً عن الشعور بأن لبنان دولة منزوعة الرئاسة والقرار السيادي، كما هي حاله منذ سنتين. ومثل هذا الخلو للرئاسة من رئيس، يندرج في الإطار نفسه بالنسبة إلى حلول ذكرى الإستقلال ومن دون أن يكون التعامل مع هذه الذكرى بما تستحقه. ولا يتجنى المرء على تشخيص الحالتيْن بالقول إنهما لبنان اليتيم لجهة ذكرى الإستقلال الذي بلغ من الشيخوخة التي تستحق التكريم في أعلى درجاته. ويتيم لكونه وطن بلا رأس، وهذا لأن بني قومه إرتضوا أن يكون الوطن على مدى نصف قرن ساحة أحزاب عميقة الولاء لمبتكري تكوينها وعقيدة كل حزب ثم لا يقتصر الوطن على ساحة المضافة الحزبية للغريب متواطئاً مع نماذج من أبناء الوطن، وإنما تحوَّل إلى ميدان حزبي ومذهبي في لبنان لمن يتطلع إلى إنشاء منصة إعلامية لا يتيسر له تأسيسها إلا في لبنان، ولمن يرى أن ظروف في لبنان تتيح له تنفيذ مشروعه التعبوي والتسليحي والعسكري وهو في منأى نظرياً عن المشاركة. هنا بات المواطن فاقداً قراره وضبطه للأمور، وعلى هذا الأساس فهو إبن وطن نظام سقيم لا شفاء من سقمه، في ضوء الحال البائسة التي وصل إليها حيث لا يتم حسم ظاهرة الرئاسة وإنتخاب رئيس. وهذا الإستحقاق الذي كان في حالة إرجاء عمداً لم يعد على الحالة نفسها بعدما بات الطيف الشيعي مهموماً بحصر إنشغال البال بالسبل التي يعالج فيها محنة الطائفة التي لم تعد على القدرة الماضية للتعطيل، وأن الأولوية هي لمعالجة كارثة الدمار والنزوح واللجوء وخسران رهانات كانت فاعلة على مدى عقد من فرض الأمر الواقع ولم تعد كذلك في ضوء التصفيات التي تتواصل حدوثاً لقيادات الصفوف التالية للصف الأول. وإلى ذلك فإن إنشغال البال يشمل أيضاً حُسن التصرف بحيث لا تصيب الطيف الآخر (حركة أمل) من الثنائي الشيعي ما أصاب ويزداد إصابات "حزب الله".
ما يعيشه لبنان عموماً كارثة غير مسبوقة بإستثناءات محسوبة ولا علاج إلى إعتماد أجواء الترميم الوطني بدءاً بإغلاق نوافذ العواصف العاتية نافذة بعد نافذة، وبحيث تبدأ بعد إستكمال مؤسسة الحكم بإنتخاب رئيس للجمهورية، عملية الترميم برعاية عربية هدياً بتجربة الإنقاذ التي تتمثل ﺒ "إتفاق الطائف" وحاولت المغامرات الحزبية غير اللبنانية تشويه جوهر مضمونه الذي هو بمثابة العلاج الذي يخفف من سقم النظام ويسد الثغرات التي كانت السبب في نزاعات وتشديد على حقوق طوائفية غير مكتملة.
ولا تأخذ عملية الترميم الوطني مبتغاها إذا كان لا يصار إلى تأميم حالات الإستيطان غير اللبناني على الأرض من خلال أحزاب عربية وإسلامية ووضع قوانين لا تجيز، كما تفعل ذلك الدول التي تحرص على إستقلال كيانها وإستقلال قرارها بما ينص عليه الدستور، إنشاء أحزاب لصالح هذه الدولة أو تلك وترويجاً لطموحات هذا الحاكم أو ذاك مع إرفاق إنشاء الأحزاب بعوائد مجزية سياسياً وتطويرها أسلحة وتدريبات ثم شيئاً فشيئاً إستيطان مناطق من لبنان، الأمر الذي ينعكس على ما هو أشد تبهيتاً لإستقلال الدولة وبالتالي لتطوير وسائل التدخل إلى درجة تجميد الإستحقاق الرئاسي مع ما يتفرع عن هذا التجميد من تعطيل للدور الذي تقوم به دولة مستقلة.
هنالك خواطر كثيرة تفرضها الحالة الكارثية التي يعيشها لبنان سببها انه على مدى ربع قرن وبالذات في السنوات العشر التي هذا العام 2024 أحدثها، كان وطناً ثنائي السيادة، سيادة رسمية بموجب إستقلاله يوم 22 نوفمبر 1943 وسيادة نشأت بفعل إنه ساحة لمن يتطلع إلى دور يتم تعزيزه من خلال الورقة اللبنانية. هذا حدث مع ثلاثة أطياف ثورية مع حركة "فتح" وشقيقاتها وحدث مع الطموح الناصري وحدث مع النزعة القومية السورية. وحدث مع التطلعات البعثية السورية والعراقية ومع النظام الثوري القذّافي وبلغ التطلع مداه مع النظام الثوري الإيراني. وفي نهاية المطاف إنقسمت الأحزاب ثم بدأ بالتدرج إضمحلال تأثيرها.
وطوال هذه التجارب الإستيطانية بنسب متفاوتة، إرتفعت في السماء اللبنانية الأعلام غير اللبنانية ولافتات التمجيد لمرجعيات هذه الأحزاب، ومن دون ذكر لبنان بأعلام يرفعها هؤلاء وبإحياء مناسبة الإستقلال كبادرة شكر للإستضافة الإستيطانية. ثم باتت هذه المناسبة أو الإستقلال اليتيم غير ذات إهتمام حتى من جانب أهل الحكم في الوطن السقيم. ولا سامح الله المستبيحين والمرحبين بهؤلاء تهليلاً وطاعة.
فؤاد مطر