الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

بارحة أبو عمار.. وحاضرة أبو هادي

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الأربعاء 16/10/2024

حيث أن حاضرة اليوم اللبناني – الإيراني الذي يقاسي لبنان ويلاته المجتمعية نزوحاً وتدميراً وكادت المأساة تبدو أكثر إيلاماً لولا نجدات إغاثية من أحنِّ المغيثين خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز ومن لفتات خليجية دوائية وغذائية ومسلتزمات طبية كانت قطر الأمير تميم وإمارات الشيخ محمد كريمتين في إيصالها وعلى الطيران الحربي الميمون.. حيث أن هذا اليوم الذي بلغ العدوان الإسرائيلي على البشر والحجر أبشع درجاته، فإنني  من موقع المشاهد والمتتبع أستأذن القارىء بتدوين، وعلى لسان رمز مقاساة الماضي زعيم حركة "فتح" ياسر عرفات، وصْفه للذي جرى قبل نصف قرن "لبناني – فلسطيني" في لبنان وبالذات في "عاصمته" بيروت وبعض ديار "جنوبه" بدءاً بالشرارة التي إندلعت على خلفية تعرُّض حالة ركاب نقل فلسطينيين عائدين من إحتفالية ثورية شاركوا فيها وعند مرور الحافلة (الأحد 13 أبريل/ نيسان 1975) في حي مسيحي أطلق مسلحون النار عليه وأدى ذلك إلى مقتل 26 فلسطينياً، وصولاً إلى إنتشار قوات فلسطينية في مناطق من جنوب لبنان إضافة إلى إنتشار يتسم بالتحدي في بعض أحياء العاصمة بيروت فإلى حالات من الإحتراب الفلسطيني – الإسرائيلي إنتهى بمحطات مأساوية وتسفير عرفات وقواته بحراً إلى تونس (أكتوبر/ تشرين الأول 1985). وهذا التسفير ربما كان سيحصل للأمين العام ﻟ "حزب الله" السيد حسن نصرالله تسفيراً إلى طهران أو العراق لو أن إسرائيل لم تعتمد الإغتيال له ولنخبة من القياديين والمساعدين بتدمير المبنى الذي كانوا مجتمعين في طبقة أرضية منه.

أيام الثمانينات اللبنانية – الفلسطينية العرفاتية قريبة الشبه بحاضر أيام بدأت منذ أن قرر نصرالله أن من واجبه كذراع ثورية مرجعيتها إيران المرشد والحرس الثوري مساندة الذراع الحمساوية التي تخوض المواجهة ضد إسرائيل نتنياهو في قطاع غزة. ولكي لا يكون هنالك مجال للإفتراض فإن نصرالله عبَّر عن ذلك في كل إطلالاته التلفزيونية على مدى أشهر مكرراً الإصرار على أن حزبه متمسك بدوره القتالي ما دامت إسرائيل لم تنسحب من غزة. وبهذا الإصرار بات لبنان وإن ليس بإجماع مؤسساته الدستورية والطوائفية طرفاً في هذه المواجهة تلقى التبرير حتى من أصدقائه الدوليين أمثال الولايات المتحدة والدول الأوروبية وأكثرية الدول العربية والإسلامية، الأمر الذي أوصله إلى أن حاضرة "يومه الإيراني" غدت بمثل بارحة لبنان الناشئة عن الوجود الحربي الفلسطيني على أرض وهو ما نشأ بفعل التمني من جانب مصر عبدالناصر على لبنان برئيس جمهوريته شارل حلو وقائد جيشه اميل البستاني.

ومن هنا إستعادة توصيف لحال البارحة كما أفاض في إستحضار محطاتها زعيم حركة "فتح" ياسر عرفات المبعد قسراً من لبنان،  وكأنما نجّى إبعاد أبو عمار وكسْر الشوكة الفلسطينية الفتحاوية في لبنان من تحييد لبنان من لهيب الصراع مع إسرائيل بدليل أن إيران بدأت للتو زمنذاك في زرع مخططها الذي فاق دور ترؤس أبو هادي له بعد إثنين سبقاه في الترؤس الدور الفلسطيني، فضلاً  عن أن الثمن الذي دفعه "حزب الله" أميناً عاماً ومجموعة مساعدين تنفيذيين وقادة عرب وإيرانيين حلفاء للنهج الإيراني، كان أشد إيلاماً من الذي جرى وبما لا يراعي سيادة لبنان وصيغته المجتمعية. وعدم المراعاة هذه من جانب عبدالناصر كانت مثار إستغراب قياساً بمراعاته المحمودة في زمن الوحدة المصرية – السورية وكيف أنه مراعاة للصيغة المجتمعية وسيادة الوطن اللبناني حرص عندما كان في زيارة إلى دمشق الناصرية وحدوياً أن يجتمع برئيس لبنان تلبية لرغبة الجنرال فؤاد شهاب في خيمة نُصبت على قطعة أرض صغيرة مشتركة في الحدود السورية – اللبنانية، وذلك لكي تبقى السيادة اللبنانية في مأمن وحرز حريز من تدخلات الآخرين على نحو لاحقاً التدخل السوري ثم يأتي الإيراني ليحقق في لبنان مع مرور حلقات التعاطي والتدخل "دولة" داخل الدولة السيادية.

ويبقى كلام عرفات الذي أستحضر قوله لي ذات يوم تونسي هدأت فيه عاصمة اللجوء الفلسطيني وعلى مستوى القيادة العليا وسائر القيادات التي تشارك في صُنع القرار وكذلك مئات من القوات التي حاربت إسرائيل من لبنان، وكان المردود قبل أربعين سنة قريب الشبه من المردود الناشئ عن إختيار "حزب الله" المواجهة مع إسرائيل مساهمة في نصرة غزة فإذا الأمر ينتهي على نحو المأساة التي إنتهت إليها الأحوال في دولة لبنان الإيرانية المرجعية والهوى ودولة لبنان الإدارية المعترف بها أممياً.

كان لقائي بالرئيس ياسر عرفات في مقر إقامته ومَن إصطحبهم في رحلة البحر التهجيرية الشهيرة من مدينة طرابلس اللبنانية. وما رواه عن الأمس الفلسطيني في لبنان توأم الحاضر اللبناني – الإيراني النشأة والهوى والإلتزام كان الآتي:

"لا بد أن أشير بداية إلى أن ما يحدُث في اللبنانيين وحدهم، وما أعطاه هذا الشعب للقضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية هو اغلى ما يمكن أن يعطيه، أعطى دمه عندما عزَّت في الأمة العربية أشياء كثيرة، فعلى سبيل المثال خسائرنا اللبنانية - الفلسطينة في العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام الماضي بلغت إثنين وسبعين ألفاً بين شهيد وجريح لبناني وفلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، 32 قرية دُمرت في الجنوب اللبناني أو أصابها التدمير، خمس مدن هي صور وصيدا وحاصبيا والنبطية والدامور إلى جانب بيروت نفسها التي قسَّمتها العسكرتاريا الإسرائيلية إلى مربعات وكانت في كل يوم تتخلص من مربع، 17 مخيماً من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين جرى مسْحها من فوق الارض. إذاً كما أشرت في البداية فإننا كلبنانيين وفلسطينيين شربنا سوياً من الكأس نفسها وقاتلنا معاً القتال المشرِّف الذي لم يكن دفاعاً عن لبنان أو عن فلسطين وإنما كان دفاعاً عن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. ولقد أعطينا معاً بهذا القتال المشرِّف أملاً جديداً للجماهير العربية من حيث أننا أثبتنا أنه ليست التكنولوجيا وحدها التي تُمكننا من الإنتصار على العدو الصهيوني، فبالرغم من تقدُّم التكنولوجيا يبقى أن الثبات والقتال ومقارعة العدو، كما حصل طوال 88 يوماً في ملحمة بيروت، من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها التي تقود الى النصر، وأنا قلت هذا الكلام في مؤتمر قمة فاس عندما خاطبتُ الملوك والرؤساء العرب وقلت لهم إنهم أضاعوا فرصة تاريخية يحدُث معها لأول مرة أن ثماني فرق ونصف الفرقة من قوة إسرائيل مشغولة على الجبهة اللبنانية، مشغولة في محاصرتنا، وبالمناسبة تحضرني الآن كلمة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، شهيد أمتنا العربية رحمه الله، عندما قال لي: «أنا مش طالب منك أكثر من أنك تشاغل لواء، مش طالب من الثورة الفلسطينية أكثر من مشاغلة لواء إسرائيلي»... تذكَّرت هذا الكلام وتذكرَّه إخواني معي أثناء الحصار ونحن نواجه ثماني فرق ونصف ناهيك عن الطيران والبحرية الإسرائيلية وأثبتنا بما لا يدع مجالاً للشك أنه بالإرادة والإيمان وأمام التضحية ليس من شيء يمكن أن يعترضنا. ولذلك قلت لهم في مؤتمر قمة فاس: «أضعتم فرصة تاريخية» لأنه عندما يكون ثلاثة أرباع الجيش الإسرائيلي وكل الطيران وكل البحرية في مواجهة الثورة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين وحدهم يكون الطريق إلى القدس مفتوحاً، ومع ذلك قلت لهم أيضاً في قمة فاس إنه على رغم ذلك فإن الفرصة لم تضع فأمامنا إمكانية إشعال حرب إستنزاف ونحن كثورة فلسطينية وحركة وطنية لبنانية قمنا بحرب إستنزاف إعترف بها العدو بعد ذلك وإعتبرها مكْلفة جداً وهي التي أجبرتْه على إعادة توزيع قواته والإنكماش بها إلى الخلف، إلى نهر الأولي، بل وهي التي أدت إلى إستقالة بيغن، وهي التي أدت قبْل ذلك إلى إنتهاء شارون، وهي التي أدت أيضاً إلى إستقالة الكسندر هيغ، والآن للأسف لولا ما يحدُث للثورة الفلسطينية  من مشاكل لكانت النتيجة أروع بكثير مما نراها. وأعود فأقول إن هذا الشعب الذي أعطى كل هذا العطاء مع الشعب الفلسطيني، القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية التي أعطت كل هذا العطاء من حقها على الأمة العربية أن تقف معها في هذه المحنة الدائرة الآن، فأنا أعتبر أن هناك مؤامرة إسرائيلية - أميركية متورط فيها بعض الأطراف العربية هدفها التقسيم، تقسيم لبنان، تمهيداً لبلقنة المنطقة. وهذه هي الكارثة وأنا منذ خرجتُ من لبنان، بل وأثناء الحصار، وقبْل الحرب وأنا أقول إننا مقبلون على تغيير في الخارطة السياسية للمنطقة العربية، وقلت إننا مقبلون على بلقنة للمنطقة، وقلت إننا داخلون إلى نفق مظلم، قلت هذا كله ولكن طائر الحي لا يشجي فرعاً...  في ضوء ذلك أنا مستعد أن أضع كل إمكاناتي كقائد للثورة الفلسطينية من أجْل وقْف التدهور ومن أجْل مواجهة مؤامرة التقسيم في لبنان...".

عسى ولعل وقد بات رمزا المحنة اللبنانية الكثيرة القساوة أبو عمار ياسر عرفات وأبو هادي حسن نصرالله في ذمة رب العالمين، يفيق المجتمع الدولي من التجاهل غير الكريم لما جرى في غزة ويتواصل في لبنان ويخلُد الجميع في ضوء إستيلاد دولة فلسطينية تكاتف دولة تكون خلت من نتنياهو وسائر محترفي التدمير والإبادة إلى ما يرضي الخالق ويرحم المخاليق عرباً ويهوداً مسلمين ومسيحيين.

 

فؤاد مطر