الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

كأنما أثمرت في لبنان ليحاول في السودان

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"

بتاريخ الخميس 11/4/2024

كأنما هي أثمرت محاولة التوسط الماكرونية في الأزمة اللبنانية وحان قطافها عنباً غير ذلك العنب الذي رآه الشاعر في حلب حتى نتفاءل خيراً بما أورده زميلنا ميشال أبو نجم في تقريره (الشرق الأوسط عدد الأحد 7.4.2024) حول مؤتمر دولي ستستضيفه العاصمة الفرنسية يوم الإثنين 15 أبريل/نيسان الجاري وهو التاريخ نفسه لليوم الذي بدأ الجنرالان رفيقا السلاح الإحتراب كل منهما ضد الآخر وكلاهما على درجة من اللدادة للشعب السوداني الذي ما زال لا يعرف موجبات هذه الحرب بين سودان جنرال يشغل منصب رئيس مجلس السيادة هو الفريق عبدالفتاح البرهان وجنرال يشغل منصب رئاسة "قوات الدعم السريع" هو الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي). وفي الحالتين منيت سيادة السودان بما لم تُصب به سيادة وطن وأثبت "الدعم السريع" أنه فاقد دعْم الوطن وسيادته والذود عنه بسرعة ريح عاصفة. ونقول هذا الذي نقوله والقلب حزين على هذا الذي أصاب السودان والكيان. وها هي أحد عشر شهراً حافلة بكل ما أصابت وجه الوطن من كدمات تبادلها الجنرالان دون وقفة من كليهما يسائل الجنرال المحارب نفسه: ما هذا الذي إقترفتْه اليد التي تناست الواجب الذي من أجْله كان التطوع في الجيش، أي حماية حدوده وتثبيت وحدة بنيه والعمل على أن يكون أمثولة في الحرص على الوطن والمواطن.

ولقد كان حرياً بالجنراليْن رفيقيْ السلاح ثم رمز شراكة في عمل إنقاذي بنهج لا يماثل "إنقاذ" عقديْن من الحُكم الذي جار ما فيه الكفاية لكن السودان بقي بعيداً عن حافة الهاوية وبقي المواطن يحمد الله ويشكره على نعمة الإستقرار وإرفاق الحمد والشكر بالدعاء أن يُصلح ولاة الأمر أهل الحُكم بعض ما شاب تجربة "الإنقاذ" بعهديه من سياسات أحدثت تشققات متنوعة في مفاهيم لا تشد أواصر الوحدة الوطنية.

هذا الذي كان حرياً بالجنرالين إعتماده لم يحدُث، وتواصلت الجولات ناراً تدمر وتقتل وتدفع بالآمنين إلى النزوح وكأنما دور حرب هذيْن الجنراليْن هو أن يكون مصير عشرات الألوف من السودانيين مثل مصير الغزيين. والمصير كما هو حاصل واحد مع إختلاف أن نسبة الرحمة لدى كل من جنراليْ السودان قليلة وليست مثل التي لدى الجيش الإسرائيلي الذي يستعذب بإرادة من رئيس الحكومة نتنياهو وأركان قيادة الجيش المتجرد من أخلاقيات المحارب قتْل الناس كباراً وصغاراً وأطفالاً وتدمير المستشفيات على مرضاها وممرضيها وأجهزة العناية والبيوت على ساكنيها لحظة الإفطار الرمضانية أو حتى عند تناول وجبة السحور كما عند تأدية صلاة المغرب أو العشاء أو الفجر وعند صلاة التراويح فالمهم أن يموت هؤلاء ما داموا عرباً مسلمين أو مسيحيين.

في لبنان بذل الرئيس ايمانويل ماكرون بعض السعي، لكن هذا السعي لم يثمر كما المأمول ربما لأن إرادة دولية تعيق أمر البت في الحل كانت وبعد الذي جرى للسودان والسودانيين وكيف أن جنراليْ الحرب لم يغتنما وبنفسية من يريد الإبراء للجراح التي تسببا بنزفها للناس فضلاً عن تدمير منازل وأسواق، يتمنى المرء لمبادرة الرئيس ماكرون النجاح عسى ولعل نسمع أن رحلات العودة إلى الديار المنزوحة بدأت وكذلك إختصار الإغترابات القسرية. وهذه الأحوال الصعبة نزوحاً وإغتراباً قسرياً كان من شأن التمسك بالمحاولة الأولى للتوفيق بين الجنرالين المتحاربيْن التي إستضيفت في جدة وبرعاية كريمة أخوية من جانب القيادة السعودية إختصار بضعة أشهر من المعاناة يكابدها الشعب السوداني. وإذا جاز الإفتراض فإن تعويض تلك المحاولة ناشىء من أن كلا الجنرالين يتطلع إلى تتويج نفسه حاكماً للسودان غير آخذ في الإعتبار أن شعب الوطن وبنِسَب متفاوتة ليس مع هذا الجنرال أو ذاك، وهذا واقع غاب عن بال الجنرالين أو غيَّباه مع التوهم بأن شعب السودان الذي يكابد منذ أشهر ويلات حرب الجنراليْن ليس مثل الشعب الذي أسقط حكم أول جنرال للسودان الفريق إبراهيم عبود ومجلسه العسكري في إنتفاضة كانت الأخلاقيات الجنرالية في منتصف الستينات تأخذ في الإعتبار أن الشعب إذا أراد تغييراً فليكن هنالك تفهَّم له وليس إعتماد أسلوب الجنراليْن المتحاربيْن على السودان في أرض الوطن منذ السبت 15 أبريل/نيسان 2023، ولأن الفريق إبراهيم عبود رأى أن إرادة الشعب تتقدم على إستفراد العسكر بالسلطة فإنه سلَّم الأمر لله.. فإلى الإرادة الشعبية.

إهتمام الرئيس ماكرون في ما يخص الأزمة الرئاسية في لبنان هو نوع من التعاطف يشعر رئيس الدولة الفرنسية بواجب القيام به، ذلك أن لبنان ماضياً في الأربعينيات كان أحد أضلع الدولة الفرنسية الكبرى ذات الإحتلالات أو تخفيفاً ذات الإنتدابات. ولقد حاولت فرنسا وزار رئيسها لبنان المصاب بمرفأ العاصمة المدمَّر وتداعيات التفجير الذي حدث على مئات من الضحايا فضلاً عن تدمير وتشقق ألوف المنازل والشقق. ثم فترة بعد أُخرى نشطت الدبلوماسية الفرنسية زيارات وإجتماعات وملاحظات قاسية وتنبيهات من مساوىء عدم ترْك القضاء يأخذ مجاله ويمارس القاضي المنزه عن الولاء بالرضى أو تحت التهديد واجب التحقيق في كارثة تفجير المرفأ التي تنتسب كمفاعيل إلى بعض هذا الذي يحدُث للشعب الفلسطيني في غزة. وإنتهى أمر السعي الفرنسي أنه بات شراكة تتمثل في ما يسمى "لجنة خماسية" تجمع سفراء السعودية ومصر والولايات المتحدة وفرنسا وقطر. ولقد نشط سفراء الدول الخمس وعقدوا المزيد من الجولات واللقاءات الثنائية للبعض إلى جانب الإجتماعات التشاورية ولم يبق طرف من أطراف الأزمة لم تتصل به اللجنة بمن في ذلك الطرف الممانع ومثيله المرتبك وثالثهما المتردد. وحتى الآن لم يثمر السعي الذي تصدرت فرنسا الدبلوماسية بعض محطاته. من هنا التمني أن لا تصيب المحاولة الفرنسية بالنسبة إلى المحنة السودانية المصير المعلَّق نفسه التي هي عليه المحنة اللبنانية.

ومع أن بعض الظن بمقاصد الرئيس ماكرون ليس وارداً لأنه إثم في حق رئيس يبحث عن مقعد ثابت له في شرفة صانعي مصائر الدول، التي تعيش أزمات على درجة من التعقيد مثل لبنان أو تلك التي تتخبط عشوائياً في حالة إحتراب جنراليْن قائمة على المكايدات مثل المتواصل حدوثه في السودان.. مع بعض الظن ثمة موجبات في المبادرة الفرنسية يأمل المرء خيراً أن يحقق الرئيس ماكرون تهدئة لدواع إنسانية وأن لا تصب عوائدها المالية في صندوق إحتراب الجنراليْن إذ بذلك لن تزول غمامة أخطار النزوح والمجاعة من سماء السودان من العاصمة إلى شرق البلاد وغربها ووسطها.

وتبقى مجرد خاطرة في شأن المسعى الفرنسي وهذا الاهتمام بالحالة السودانية وهي أن الدافع إليها ربما هو لعلاج الجراح المعنوية الناشئة عن إستهانة عسكر النيجر بفرنسا المستقرة في تلك الدولة الأفريقية التي تشكل رقماً في مهابة فرنسا ثم إهتزت هذه المهابة بتطويق السفارة الفرنسية لدى النيجر بمن في ذلك السفير وطاقم السفارة وبقيت الأمور على هذه الحال الشبيهة بإحتلال ثوريي آية الله الخميني للسفارة الأميركية في طهران. والفرق بين معالجة الرئيس جيمي كارتر لإعتقال سفارته في طهران وأسلوب الرئيس ايمانويل ماكرون في معالجة إعتقال سفارته لدى النيجر وتجميد حركة القوات المرابطة في قاعدة، أن ماكرون إنسحب مرتضياً مجبراً لا بطل طأطأة تنقذ سمعة فرنسا من عملية عسكرية كتلك العملية الفاشلة التي ظن كارتر أنه سيلقى من خلال نتائجها تعظيماً لم يتحقق له.

ومن الجائز قراءة ما يدور في خاطر الرئيس ماكرون كدافع لمبادرته السودانية، أن السودان بوابة رحبة إلى سائر دول القارة وأنه بنجاح مفترَض الحدوث لمبادرته ربما يبرىء الجرح المعنوي النيجري، ويزرع شتلة فرنسية في حديقة السودان سبقه في الشتل غرس صيني وروسي وإيراني وأميركي. وكلها شتول من المبكر الإفتراض أنها ستصبح أشجاراً إذا كان السودان لن يستقر. ومن هنا العبارة عنواناً لهذا المقال: كأنما أثمرت في لبنان ليحاول في السودان.

فؤاد مطر