الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

العمى والكحل.. فلسطينياً. إسرائيلياً. أميركياً

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 20/8/2024
في مثل هذه الأيام الصيفية من العام 1993 التي تكابد معظم دول العالم من شدة وطأة حرارة في الجو غير مسبوقة بهذه الحدة، كانت المنطقة المثقلة بهموم وإهتمامات تتصل بمجريات الصراع العربي _ الفلسطيني وكيف أن المجتمع الدولي لا يعير هذا الصراع من الاهتمام وبما يتجاوب مع خطوات عربية على مستوى أهل القمة.. في مثل هذه الأيام حدثت خطوة لافتة بدت بعد إكتمال سائر الخطوات تترك إنطباعاً توحي ملامحه أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يمكن أن ينتهي إلى تسوية أولية. ومتى تحدُث هذه التسوية فإنها تمهد الطريق أمام تذويب ما إستعصى تذويبه من جليد هذا الصراع. هنا يبدو جلياً أن الإدارة الأميركية إذا أرادت تحقيق تسوية فلسطينية – إسرائيلية فإنها تبتكر من الصيغ ما يمهد الطريق أمام هذه التسوية. وما فعلتْه أميركا بيل كلينتون (الديموقراطي) ولم يفعله جو بايدن (الديموقراطي) أنه أنجز الخطوة الأولى على طريق الحل الذي بإكتمال الخطوات تطوى مبررات الصراع. وتمثلت الخطوة بعد محادثات دولية ﺒ "مؤتمر دولي للسلام" إستضافتْه إسبانيا في عاصمتها مدريد عام 1991 شكَّل الحضور الفلسطيني – الإسرائيلي فيه ولقاءات الكواليس الأميركية _ الفلسطينية _ الإسرائيلية في أروقة مقر المؤتمر حالة إطمئنان للرئيس الأميركي كلنتون الذي كان وهو في مكتبه البيضاوي في واشنطن يتابع الخطوات حاثاً بوسائل وعبارات أبلغها مَن يمثله في المؤتمر إلى كل من الجانبيْن الفلسطيني والإسرائيلي.
ثم نجد الرئيس كلينتون يتصرف على أساس أن تقطف إدارته وحدها الثمرة الأولى، حيث أنه بعدما إكتمل الإقتناع من جانب "فلسطين العرفاتية" و "إسرائيل الرابينية" بفتح صفحة العلاقات بين طرفيْن يعمل بموجبها على ردم متدرج للصراع بين شعب محتل بإرادة دولة غير طيبة النوايا وعصابات إحتلت أرض صاحب الحق في هذا الكيان، إرتأى أن يدخل التاريخ من بوابة كان سبق أن دخلها جيمي كارتر فيرعى في حديقة البيت الأبيض يوم 13 سبتمبر/ أيلول 1993 توقيع عرفات ورابين إتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني _ الإسرائيلي. أوسلو وبحضور وزيريْ الخارجية الأميركية والروسية.
لم يكن ذلك الاتفاق نهاية الطريق لكنه بالمواد التي تضمَّنها وجرى التوقيع عليها إعتبر أن كلاً من عرفات ورابين قدما للشعبيْن الفلسطيني والإسرائيلي بداية السلام بينهما على أن يُكمل الذين سيتسلمون المسؤولية في "السلطة الفلسطينية" أحد بنود الاتفاق والحكومة الإسرائيلية التي سيتعاقب على رئاستها آخرون بعد رابين، إلا في حال إرتآى الشعب الإسرائيلي تكريم هذا الأخير بإبقائه رئيساً للحكومة لكي يسهر على إتفاق ساهم في إنجازه.
رغم الإعتراض العربي النسبي المعلن على تلك الخطوة الشجاعة وبداية تشققات في الأوساط الحزبية والجهادية الفلسطينية المتحفظة على أن اليد العرفاتية صافحت اليد الإسرائيلية وأن توقيع عرفات إلى جانب توقيع رابين كان يعني التفريط بمكاسب القضية الفلسطينية وبالذات ما تحقق للقضية من القمم العربية والقمة الإسلامية الأولى في الرباط... رغم ذلك بدت الخطوة بالنسبة إلى الجانبيْن عرفات بمن يمثل ورابين بمن ينشد طمأنينة للشعب الإسرائيلي أنها بمثابة الكحل الذي هو أفضل من العمى على نحو ما توضحه معاني هذا المثل الشعبي.
يوماً بعد آخر يتزايد رمي عرفات بعبارات فيها الكثير من التقريع، وتبدأ في الوقت نفسه حملة اليمين الإسرائيلي على رابين. إلتقت بعض الأطراف العربية والفلسطينية، في حملات من الكلام الكثير القساوة على من بات رئيس السلطة الفلسطينية، مع بعض الأطراف الإسرائيلية التي لا ترى أن الكحل أفضل من العمى، أي تفضل البقاء على عمى نظرتها إلى فلسطين الشعب الذي بات لاجئاً وبلاده التي باتت محتلة. وهنا يبدأ التعامل المتوحش من جانب اليمين الإسرائيلي الذي يتمثل بغلاة التطرف الصهيوني بجانبيْه السياسي والديني. يتم إغتيال إسحق رابين من جانب بني قومه جزاء مسعى ينفع بلده وشعبه من دون أن يضرها بشيء ثم تتم "إبادة عرفات صحياً" وعلى مرحلتيْن الأولى حصاراً في مقر قيادته في رام الله أيقظت في قلبه ومعدته وأعصاب يديه ودماغه حالة قيل إنها بفعل تسميم كانت محطته الأخيرة في مستشفى عسكري في باريس ساد التمني والإعتقاد أنه سيشفى ويستأنف رئاسة السلطة خصوصاً أنه ما زال في النصف الثاني من السبعينات.
يبقى لا بد لليمين المتصهين الذي تستوقفنا هذه الأيام حالة التوحش في نفوس بعض رموزه من ضربة في حق المتبقي من مثلث إتفاق أوسلو (أوباما) الذي لا بد من تأديبه على مسعاه المسيء في نظرهم. كيف؟ لا بد لهذا اليمين المتوحش من تأديب أوباما إنما لا يشعل التأديب العلاقة مع أميركا الحزب الديموقراطي ناراً. وإستقرت الخطة الإبادية لهذا الرئيس الأميركي على تشويه سمعته وإحداث حالة إنشقاق داخل بيته وفي أوساط المجتمع الأميركي. وكان إسناد المهمة إلى اللعوب مونيكا لوينسكي تبهجه في مكتبه داخل البيت الأبيض من دون أن يأخذ في الإعتبار أن في الأمر مكيدة. ثم يضج المجتمع السياسي الأميركي ﺒ "فضيحة كلنتون _ لوينسكي". ويأخذ من تلاه من الرؤساء "الديموقراطيين" باراك أوباما والرئيس الحالي جو بايدن في الإعتبار ما قد يصيبهما إذا هما في الموضوع الفلسطيني _ الإسرائيلي فأخذ بقاعدة العمى ولا الكحل وهذه مواقفهما تدل على خيارهما المرتجف.
ما يراد قوله هو أن خطوة مماثلة لخطوة أوسلو وعلى قاعدة الكحل أفضل من العمى، مأمول في حال فوز الحزب الديموقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية، أن تحذو كمالا هاريس حذو ما أقدم عليه بيل كلينتون ويجري في حديقة البيت الأبيض الديموقراطي الهاريسي التوقيع على إتفاق مماثل لإتفاق أوسلو حاملاً إسم من يمثل فلسطين السلطة وفلسطين القسامية المحتاجة إلى بعض التعريب، ومن يخلف نتنياهو في ترؤس الحكومة. وهكذا درهم وقاية للقضية في إنتظار العلاج الشافي.. الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس إلى جانب دولة إسرائيل التي لا تعتدي ولا تبيد ولا يرقص بعض وزرائها في رحاب المسجد الأقصى... ألا شُلَّت أقدامهم.