نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 14/8/2024
عندما تابعتُ عبْر فضائيتيْ "العربية" و "الجزيرة" عملية إختيار تيم وولتز نائباً لمن إختارها الحزب الديموقراطي (كامالا هاريس) لخوض انتخابات رئاسة الولايات المتحدة، وجدتُ نفسي كما لو أنني أرى عضو مجلس النواب اللبناني رجل القانون ملحم خلف شكلاً بعض الشيء وأسلوب حديث وتشابهاً ما يطرح من أفكار ترتبط في مجموع دوافعها بالطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه وجدتُ نفسي أتساءل: كيف أن الوعي الشعبي الأميركي إختار وعلى أهون السبب من سيكون إلى جانب كامالا هاريس الرئيسة المحتمل أن تكون الرئيسة اﻟ 47 للولايات المتحدة وأحسن الإختيار، فيما اللبناني ملحم خلف الذي يعتصم داخل مبنى مجلس النواب منذ يوم الخميس 19 يناير 2023 لا يتفاعل اللبنانيون مع إعتصامه تتقاذفهم الويلات الاجتماعية والبطالة والفوضى وشغف قادة الأحزاب في الإصرار على عدم إنتخاب رئيس للجمهورية وكذلك في عدم التلاقي حول رؤية موحدة للمخاطر التي بات الوطن على مقربة من الوقوع في شباك صانعيها. ثم تأتي "إنتفاضة" إثنين من رموز التيار العوني والمتمثلة بإستقالة عضويْ مجلس النواب (آلان عون وسيمون أبي رميا) من التيار تتسم بالرقي والأمل بأن يصحح زعيم هذا التيار الجنرال الرئيس ميشال عون قبل أن يفوت أوان التصحيح، تترك في المشهد السياسي اللبناني ملامح بارقة أهمية إعادة النظر في ساعات المحنة الوطنية.
كما أنني في اليوم نفسه كنت أتأمل في ما أصاب دولة بنغلاديش نتيجة أن رئيستها حسينة واجد غادرت بتهريب الجيش لها إلى الجوار الهندي وبذلك أضيفت إلى قائمة رؤساء تساقطوا بعضهم تم تهريبهم بالطريقة نفسها وبعضهم الآخر لم يتسن له الهرب فتم إيداعه السجن والمحاكمة ثم نهاية غير كريمة. والسبب في هذا كله أن هؤلاء لم يأخذوا بقاعدة "لا بد من إعادة النظر" حيث لم يقتنع الواحد منهم بولاية رئاسية واحدة ثم يتيح المجال أمام الشعب لكي يحكم من خلال إنتخاب رئيس جديد على إنجازات حققها الرئيس المنتهية ولايته الرئاسية المحددة بمادة في الدستور ببضع سنوات غير قابلة للتمديد، فيسديه كثير الشكر على أدائه الواجب بأمانة وضمير وحرص على سيادة الوطن، أو يقرر إختيار غيره مع إرفاق ذلك بالتمني على الخلف أن لا يكون مثل السلف.
ونحن عندما نقول ذلك لا يعني أنه لم نكن هنالك في جمهوريات الوطن العربي إستثناءات حيث أن أحدهم وفي لبنان بالذات (الجنرال الرئيس فؤاد شهاب) كسر القاعدة ولم يتجاوب مع المطالبين بتجديد ولايته الرئاسية وكان في ذلك يتطلع إلى أن يكون قراره "لا بد من إعادة النظر" بمثابة تقليد يؤخذ به في الجمهورية التي كل سياسي أو إقتصادي من الطائفة المارونية يتصرف على أساس أنه الأكثر أحقية لترؤس الجمهورية اللبنانية. ولقد ربح فؤاد شهاب بعزوفه عن تجديد الرئاسة إحتراماً طالما تمناه سابقون ولاحقون لم يتحقق لهم.
في الوقت الحالي هنالك رئيسان عربيان مع موعد لإنتخاب كل منهما في بلده. ما يتمناه المرء لكليهما أن لا الأخذ في الإعتبار أن ظروف جمهورية هذا وجمهورية ذاك تتطلب قراءة موضوعية لما يعنيه التطلع إلى ولاية رئاسية ثانية لدى الناس وبالذات عندما تكون هذه الدولة أو تلك تعيش حالة من القلق المزدوج: قلق على الاقتصاد المتراجع. وقلق من أن تجديد الرئاسة عادة يحوِّل الذي ترأس من متفهم لظروف الرعية إلى ناقم على من يشكو ظلامات أو يسير في ركاب الحركات المعارضة.
لقد كان في إستطاعة رؤساء أمسكوا بزمام الجمهورية التي يتربعون على كرسيها، أن لا يصيبهم ما أصاب آخرين إعتبروا الرئاسة حقاً للواحد منهم من غير المقبول الإعتراض على ذلك. ولم تكن الشيخة حسينة حصيفة بحيث تتقدم الفطنة على تعظيم الشأن أخْذاً بقاعدة "لا بد من إعادة النظر" وإعتبرت وهي القابضة على مقاليد السلطة في بنغلاديش خمس عشرة سنة أن الأمور بخير وأن الناس غير منزعجين من طول ترؤسها ومن حقها التطلع إلى سنوات أخرى فيما الشعب يمضغ قساوة العيش وكتامة التعبير. وعندما يختار قائد الجيش من هو أحد الفائزين بجائزة "نوبل للسلام" محمد يونس ويختصر هذا المثقف النوبلي المهمة بعبارة "تحقيق الإستقلال الثاني للدولة" فهذا مؤشر إلى أن الرجل مقتنع ومن قبل تكليفه بترؤس حكومة جديدة فإن هذه الخطوة في حد ذاتها تعكس إنطباعاً بأن الجيش في بنغلاديش والرئيس المدني ﻟ "حكومة الإستقلال الثاني" من النسيج نفسه المأمول من كثيرين يحكمون أو يتطلعون إلى الحكم ومن قادة عسكريين يغامرون أحياناً بإنقلابات، الأخذ بهذا التقليد.
قد يجوز الإفتراض أن الرغبة في تجديد ترؤس الجمهورية مرة وإثنتين وأكثر من جانب هذا أو ذاك أو لكثيرين من الرؤساء ينجي من المحاسبة. وهذا إفتراض غير واقعي لأن المحاسبة تتم أحياناً فيما الرئيس بات من السابقين ويحاول مواجهة المحاسبين بإصرار على خوض الرئاسة مرة ثانية. والهدف ليس تعزيز شأن البلاد وتصحيح مسارات خاطئة، وإنما إبعاد المحاسبة عنه قدر الإمكان.
تلك مجرد هوامش يحبرها المرء فيما الإقليم على أهبة أن ينفجر حرباً لا مثيل لها يبشر الرئيس الأميركي السابق الغاضب على من ينافسه بأنها ستكون الحرب العالمية الثالثة... ولا حل لإحتواء نافخي النار كلاماً وإستعدادات حربية ينشط المثلث النافخ (نتنياهو. النظام الإيراني. حزب الله) في إنتظار يحي السنوار القائد الجديد ﻟ "حركة حماس" لترجمة القول إلى الفعل، سوى الأخذ بعلاج "لا بد من إعادة النظر" وبذلك يسلم الإقليم كما سائر بلاد الله الواسعة وينعم البشر بحياة أرادها الله لهم لكي يكونوا من أهل الصراط المستقيم.