الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

ملاذ السلامة.. وملاذ النهاية

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 6/8/2024
إزدهرت في الستينات ظاهرة الملاذ الثوري. وكثيراً ما كنا نلتقي في القاهرة ودمشق وبغداد إلى جانب لقاءات في بيروت مع شخصيات ثورية دفعت بها العمليات الإنقلابية وبذلك وجد البعض من هؤلاء أن الملاذ في الدولة التي على إستعداد لقبول هذا السياسي أو ذاك الضابط اللجوء فيها. ولنا على سبيل المثال كيف أن القاهرة في الزمن الناصري باتت الملاذ ﻟ عبدالحميد السراج كان أحد أركان تجربة الوحدة المصرية _ السورية ثم بات وغيره كثيرون مطاردين من زملائهم الضباط الذين قاموا بحركة الإنفصال، مع التشفي من جانب بعض هؤلاء بالسراج الذي كان في قمة صانعي القرار ثم بات في السفح مغضوباً عليه وبرسم الإنتقام منه، لكن بموجب صفقة ناصرية _ إنفصالية جيء بالسراج إلى مصر وأقام فيها مطمئناً إلى أن سلامته مضمونة. وزيادة في الاهتمام عيَّنه عبدالناصر مديراً للضمان الاجتماعي وبقي شاغلاً هذا المنصب إلى أن توفاه الله ودُفن في القاهرة.
وطوال سنوات إقامته بقي في الحفظ والصون مع أن الذين يتمنون إلحاق الأذى به إنتقاماً من حالات صعبة أعاشهم فيها عندما كان رمزاً لقساوة التعامل الأمني مع المعارضين كانوا كثيرين. وما حصل من رعاية للسراج في ملاذه المصري حصل لسياسيين وعسكريين سوريين كثيرين ومن دون أن يتمكن خصوم العهد الإنفصالي من الإنتقام بهم.
وما حدث مع عبدالحميد السراج في ملاذه الناصري حدث لمؤسس حزب "البعث" ميشال عفلق الذي رحمه نظام الرئيس حافظ الأسد فلم ينفِّذ فيه حكم الإعدام فلجأ إلى بيروت حيث أمضى ردحاً من الزمن آمناً مطمئناُ محروساً بعناية من رفاقه البعثيين فيما العيون الأمنية اللبنانية بدورها كانت ساهرة عليه. وبقي عفلق وأفراد عائلته الشخصية في لبنان إلى أن إشتد صراع البعث السوري الأسدي مع البعث العراقي الصدامي ليتبوأ من جانب الرئيس صدَّام حسين ما كان يتمنى الحصول عليه في سوريا أميناً عاماً للقيادة القومية لحزب البعث. وحتى في أيام مرضه كان التعامل الصدَّامي معه تعامل من هو الرفيق الأعلى مكانة حزبية. ثم بعدما توفي وهو قيد العلاج في باريس دُفن في أرض مبنى القيادة القوميةبمهابة غير مسبوقة لطالب الملاذ في نظام ثوري.
وما كان رئيس وزراء الأردن وصفي التل ليلقى فاجعة الإغتيال من جانب شاب فلسطيني معبأ غضباً لو أنه كان في مصر طالب ملاذ كما سائر الذين رأوا فيها أكثر الملاذات ضمانة على الحياة.
لم تعد بيروت مقصد الذين يحتاجون في ساعات الشدة إلى الملاذ الآمن فيها، وذلك لأنها باتت عملياً وفي جزء من أرضها ومن الأرض اللبنانية في جنوب البلاد ملاذاً لحركة "حماس" إضافة إلى أفراد في الحركة الحوثية. ولا يقتصر الملاذ اللبناني على زيارات قياديين من "حماس" من بينهم الرجل الأول في الحركة إسماعيل هنية على لقاءات تخطيط مع الأمين العام ﻟ "حزب الله" حسن نصرالله، وعلى موفدين ثوريين ودبلوماسيين إيرانيين يأتون خصيصاً من إيران بقصد التخطيط والتشاور، وإنما بات جزء من الأرض اللبنانية في الجنوب ميدان عمليات لمقاتلين حمساويين ويتم الإعلان بين الحين والآخر من جانب مسؤولين من "حماس" عن هذه العمليات.
هنا لا يعود لبنان الملاذ الآمن لمن يحلقون في الفضاء الثوري الإيراني. ويصبح من وجهة نظر إسرائيل كما لو أنه إمتداد لقطاع غزة ينطبق عليه العدوان ما ينطبق على الحمساويين أينما نشطوا وأمكن الوصول إليهم.
في ضوء ذلك تفادى النظام الإيراني أن يكون ساحة إنطلاق عمليات كما لبنان وإقتصار الدور على تنشيط الأذرع العاملة تحت رايته وأهمها وأكثر فعالية حركة "حماس" ولكن رغم ذلك فإن إسرائيل ترى في الدور الفلسطيني الذي تمارسه ما تراه بلبنان. ومن هنا جاءت عملية إغتيال إسماعيل هنية عكس ما يرسمه النظام الإيراني لدوره الفلسطيني بمعنى أن يكون الداخل الإيراني ملاذاً للتحادث مع قياديي "حماس" الذين يأتون أو يستدعون للتشاور والتمويل ورسم الخطط وأن يكون الخارج كما يتمثل بجزء من لبنان وباليمن الحوثي والعراق الإيراني الولاء والتنظيم لتنفيذ العمليات.
ولقد إفترضت إيران بأنها نائية أن تكون مجرد الملاذ الثوري الآمن كما مصر وفي الوقت نفسه يستمر الدور الخارجي كما هو عليه يبقيها في منأى عن المخاطر والعمليات التي تتسبب بإحراج بالغ القساوة لمهابة الحكم على نحو واقعة إغتيال قائد حركة "حماس" إسماعيل هنية، خصوصاً أنه أتى مدعواً وضيفاً للمشاركة في إحتفالية تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزكشيان بما يعني أن طهران هي الملاذ الآمن وليست العاصمة التي كانت النهاية لمسيرة نضاله من أجل وطنه فلسطين في شقة الإستضافة الإيرانية المتميزة له.
وهكذا الملاذ لأهل السياسة والأحزاب والحركات التي تتنوع مقاصدها. ملاذ السلامة وملاذ النهاية. أعان الله الأمة.

فؤاد مطر