الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الإحتراب المبغوض.. والفرص الضائعة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 29/5/2024
هكذا حال الأمتيْن مع الحروب التي بقدْر ما يستغرب المرء دواعيها فإنه يستهجن وقائعها وتصريحات المبتلين بها وكيف أنها لا تتسم في جوانب منها بالأصول. وما هو أكثر غرابة أن "فرسان" ساحات الإحتراب لا يحترمون مناسبات دينية ووطنية فيواصلون جولات من الإحتراب التي لا يأخذ في الإعتبار أن التعاليم السماوية تنبذ مبدأ الإحتراب وترى أن من شأن سماحة القلوب والنأي عن الشر وعدم إزهاق أرواح وضْع أي خلافات في مدار التفاهم حتى إذا كان ذلك بالتدرج.
في زمن مضى وليس بالبعيد خاض الجاران المسلمان العراق وإيران جولات من الإحتراب نأت فيها مشاعر الجار البادئ بإشعال نار الحرب عن ما أثرى به الرسول الشعور الإنساني من خلال وصيته بالجار من الأول القريب إلى السابع البعيد. وكنا كما سائر أبناء الأمتيْن المتحسرين على إحتراب الجار العراقي مع الجار الإيراني. وكنا أيضاً من باب التفاؤل بحدوث وقفة من التأمل في ما فعله الجاران الشقيقان العراق الصدَّامي وإيران الخمينية، علها تحدُث وإستحضاراً للقول الطيِّب تفاءلوا بالخير تجدوه، نفترض أن الشقيقين المتحاربيْن لا بد وقد إقترب شهر الصوم الأول في سنوات إحترابهما الثماني سيعلن كل منهما أنه لمناسبة الشهر الفضيل سيصومان عن الإحتراب طوال الثلاثين يوماً، وستكون تلك المبادرة مزدوجة الفائدة، حيث يتقرب كلاهما أكثر من جوهر عقيدتهما الروحية كما يكون وقف الإحتراب بمثابة إستراحة للمحاربين الذين لا يحاربون أصلاً عن إقتناع. لكن ما نشير إليه لم يحدُث. ثم بدأنا ومن الباب التفاؤلي نرى وبالكثير من التمني أن ما لم يتحقق مع حلول شهر الصوم لا بد سيتحقق مع إستهلال الأضحى المبارك. ويتفاجأ أبناء الأمتيْن الذين يستقبلون يومهم بأخبار القصف والقتل ويخلدون إلى ما تيسر من ساعات النوم على أخبار وحالات قصف وقتل وتدمير.
شهر صوم يتبعه شهر أضحى ولا من وقفة ضمير من جانب صانعي تلك الحرب التي تتسع حالات الدمار الناشئة عن القصف براً وجواً. ثم بعد ذلك بدأ أبناء الأمتيْن يحصون المأساة بالسنة تلو السنة وهذا نعيشه منذ سنتيْن وبكثير من الإستغراب مع الذي يفعله عساكر السودان بعضاً بالبعض، والذي إحترابهما يتسم بالتجني على بني قوم كل منهما، إذ لو كان هذا الهوس الحربي يحدُث من أجل قضية الوطن والمواطن بمعنى الذود عن سيادة الوطن ودرء الخطر الأجنبي عن المواطن لكان في هذه الحال إعتبار الإحتراب واجباً وطنياً. أما والذي يحدث فإنه أقرب إلى الفعل الميليشياوي المتدثر ﺒ "شرعية" كانت قبل سنتين موضع القبول والإلتزام الشعبي لكن ما لبثت أن باتت حالة إحتراب من دون تفويض شعبي، فضلاً عن أن إصطلاح حال السودان لن يتم في عساكر منقسمين جيشيْن ساهما في ندوب على وجه السودان الذي طالما كان رقماً مهاب الجانب في أفريقيا وموضع إحترام في محيطه العربي. ولكم يستغرب المرء وهو يتابع إحتراب عساكر السودان الإستغراب نفسه بالنسبة إلى الثنائي الإيراني _ العراقي أي الخميني وصدَّام اللذين لم يجعلا من المناسبة الروحية شهر الصوم وشهر التضحية خير مناسبة لوقف الإحتراب وإعتماد التبصر في ما يواصل كل منهما الإصرار عليه. ثم يتواصل الإحتراب ويبدأ الكلام عن السنة الأولى.. ثم الثانية تليها سنوات. وهذا أمر وارد الحدوث مع الحالة الراهنة في السودان حيث لا صوت في جيشيه سوى الصوت الهادر الذي يطيل إحتراباً أدفع الشعب السوداني من هنائه وإستقراره وأحلامه بالوطن العالي الشأن الثمن ما هو دون الباهظ حتى الآن.
ما يراد قوله من ما نعيد التذكير به عن زمن إحتراب مضى وأسس لوضع في المنطقة لم يسلم منه سوى أصحاب الرؤى المستقبلية التنموية ومنها "رؤية 2030" الواعدة والمضيئة للمملكة العربية السعودية والأمتين والعالم تشق طريقها بهمة التركيز على أن التنمية قضية تلغي الإحترابات على أنواعها وتروِّض الصراعات مهما إشتدت وتناثرت فيها مغامرات المراهنين. ويقودنا ما نقوله إلى الحالة الشبيه عناد رموزها، بل تحديداً عناد رمزيْها بحالة عناد الخميني _ صدَّام اللذين لم يتركا للتلاقي فرصة كما تضييع أرحم فرصتيْن، فرصة شهر الصوم وفرصة الأضحى، اللتين كان من شأن إغتنام حدوثهما إتاحة فرصة أمام إسكات المدافع وإعلاء صوت الفلاح وخير العمل عوض الإحتراب على النحو الذي جرى ماضياً بين العراق وإيران، ويتواصل حدوثاً بأساليب مبغوضة حاضراً بين جنراليْن في المؤسسة العسكرية السودانية العريقة كانا يتبادلان شد أزر البعض للبعض. وعند إستحضار فرص رتق ثوب الخلاف الذي تعاون الإثنان على رثه وكيف أن بداية الفرص في جدة كانت كفيلة بمداواة متدرجة وناجعة للجرح السوداني النازف، يحزن المرء على ما يفعله العناد ببعض بني أصحاب المناصب والمسؤوليات في الدولة. كما تتزايد نسبة حزنه عندما يرى إسرائيل نتنياهو تمعن فتكاً وتدميراً وتهجيراً بالشعب الفلسطيني في غزة ثم في رفح، فيما الفلسطينون وبالذات فلسطينييْ رام الله الذين لم تحقق إسرائيل لسلطتهم مبتغاها، وفلسطين غزة التي بالغت إلى حد الإنتماء في فارسيتها وعثمانيتها، لم يغتنما معاً (الرئيس محمود عباس في عرينه المجمد في رام الله وإسماعيل هنية في عرائنه بين "لبنان دويلة حزب الله" وأنقرة حيث مرجع رديف ﻟ "حماس" وطهران حيث النصح والتجهيز والتمويل) مناسبة عقْد القمة العربية الثالثة والثلاثين في المنامة، بحيث يتفاهمان ومن قبل إنعقاد القمة على مسار يؤكد فيه الجانبان أن مساعي التوفيق التي رعتها روسيا بوتين ثم صين شي جين بينغ تبقى باهتة من دون روح عربية كتلك المحاولة الأولى في مكة المكرمة (8 فبراير/ شباط 2007) والتي لو حدث إلتزام فيها وحرص على تنفيذ قَسَم كل منهما لكانت حالهما أفضل بكثير. ثم أنهما لو إغتنما الفرصة المشار إليها وذهبا إلى قمة المنامة بوفد موحد لكان العائد أفضل، ففي نهاية الأمر إن الوقفة العربية مجدية أكثر من أي وقفات عندما تتوافر مقومات إنسجام الصف العربي ولنا في ما نقول كيف أن الوجه العربي للقضية الفلسطينية حقق لها في القمة العربية في الخرطوم 1967 ما ساعد على صمودها. ومثل هذا السند كان سيتكرر وفق رؤى جديدة لو أن الفلسطينيْن (دولة رام الله و"دولة" حماس في غزة) إتفقا مسبقاً وذهبا إلى القمة ما دامت عربية بوجه عربي.
وللموضوع بقية كلام وهوامش.