أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الجمعة 17/5/2024
كان تسويق إسرائيل لمشروعها بعدما إستقر بين العام 1948 والعام 1967 يقوم على أنها مسوَّرة بخمس من الدول العربية حاربت جيوشها العصابات الصهيونية التي كانت عملياتها قبل الإنقضاض الحاسم على فلسطين تحت سمع البريطاني المنتدِب ومساعداته لتلك العصابات وعلى أساس أن الأب الروحي لإنتزاع الوطن الفلسطيني من بني شعبه وتقديمه على طبق من وعد بلفوري مشؤوم يبقى أولاً وآخراً مسؤولاً عن وليده (الوطن الفلسطيني) تم إستيلاده وتثبيته بفعل غير شرعي من مستملك غير شرعي.
ومنذ 15 مايو 1948 الذي هو يوم النكبة الأساس وحتى الخامس من يونيو/ حزيران 1967 كانت خطة التسويق من جانب الحركة الصهيونية وروافدها الأميركية والأوروبية تعتمد أسلوب التباكي، وتنشط "اللوبيات" لدى الكثير من دول العالم على أن شعب إسرائيل عرضة للهلاك من الجيران العرب وبالذات من لبنان وسوريا والعراق والأردن والسعودية ومصر الدول العربية ذات الإقتدار النسبي عسكرياً والحس الوطني والعروبي. ولأنها عرضة للهلاك فإن ما يقيها الإنقضاضات عليها هو أن تكون متفوقة عسكرياً على هذه الدول، وتلك مسؤولية ولاّدتيْها الولاَّدة البريطانية متمثلة ﺒ "وعد بلفور- 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917" والقوية من حيث السلاح، وتليها الولاَّدة الأميركية متمثلة بإدارة الرئيس هاري ترومان الذي كان من حيث التعاطف مع المولود الجديد إسرائيل بمثل تعاطف بريطانيا. ومع أن الإتحاد السوفياتي سبق الولايات المتحدة في الإعتراف بإسرائيل ما يعني إلغاء حق الفلسطيني بفلسطينه، لكن الإدارات المتعاقبة أعطت الشعب اليهودي ما هو بأهمية العطاء البريطاني الذي هو "وعد بلفور"، إذ من دون ثبات الدعم الأميركي سياسة وسلاحاً ومالاً، لا يمكن ﻟ "الوعد البلفوري" أن يصمد خصوصاً أن أحوال بريطانيا التي كانت ماضياً سيدة الغرب الأميركي _ الأوروبي بدأ زيت سراجها ينضب منذ قرن مضى.
أثمر التخويف الإسرائيلي ورفْع منسوب التهويل من الجيران العرب الأقربين إلى أرض فلسطين والأبعدين عنها في الجناح المغاربي من العالم العربي، في أن الإدارات الأميركية المتعاقبة ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا مسايرة أو بطلب من تلك الإدارات جعلت تلبية طلبات إسرائيل من السلاح ومن ضمنه الإستراتيجي أمراً لا راد له. وهكذا سنة بعد أخرى باتت إسرائيل بفعل التهويل والخشية من الجيران أقوى على صعيد السلاح ما يعني أن بقاء هذا الكيان رهن بتفوقه إلى درجة أنه بات الأقوى عسكرياً في المنطقة. ومن خلال هذا الشأن يثبت وجوده ويلغي حق الشعب الفلسطيني في أرضه خصوصاً بعدما باتت هذه الأرض ومعها أرض مصرية وسورية ولبنانية وأردنية من "ممتلكاته" نتيجة هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967 وما تلاها.
ورقة التهويل لم تعد على ما كانت عليه بعدما قرر القادة العرب في قمتهم المستضافة في بيروت يوم الأربعاء 27 مارس/آذار 2002 الموافقة على "مبادرة السلام العربية". وفي تلك المبادرة نزوع من القادة العرب إلى الأخذ بالسلام نهجاً وبالتسوية الموضوعية حلاً ثابتاً للصراع العربي – الإسرائيلي والتسليم بدولة للشعب الفلسطيني على بعض أرضه وفْق تعايش مع الشعب اليهودي. لكن المبادرة لقيت خبث نفوس الغرب الأميركي – الأوروبي وتعقيدات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي قرأت دواعي الخبث الأميركي – الأوروبي على أن هذه الإدارات والحكومات في واشنطن ولندن وفرنسا ليست صافية النية إزاء مبادرة السلام العربية وبحيث أنها بدل تشجيع المبادرة وإعتبارها الحل الذي لا حل غيره، فإنها شرعت توظفه كورقة إبتزاز على العرب تجني منها الخيرات الكثيرة.
ما يراد قوله في ضوء القمة العربية الثالثة والثلاثين التي عُقدت في المنامة للمرة الأولى (الأربعاء 15 والخميس 16 مايو/ أيار 2024) أن هذه القمة المصادف إنعقادها الذكرى السادسة والسبعين ﻟ "النكبة الفلسطينية" الكبرى تعاملت مع واقع حال "النكبة الفلسطينية" الأكبر بنسبة ملحوظة من التبصر. وما قيل في هذه القمة من كلام بقي في منأى عن الإنفعال ومفردات الويل والثبور وعظائم الأمور (عدا رشقات عباسية صدرت فقط عن رئيس السلطة في رام الله إستهدفت حماس ومَن حوْلها وخلْفها) ما يعني أن الكرة العربية باتت على نحو التعبير الرياضي في ملعب الطرف الآخر الذي هو الإدارة الأميركية ومعظم الحكومات الأطلسية، التي لم تتعامل على النحو المأمول مع المحنة الغزاوية إنسانياً ومعونة طبية وطعامية، فضلاً عن الكلام الذي تفنن في تعابيره الرئيس الأميركي بايدن وكان مثل حلاوة تُعطى من طرف اللسان. ولولا التظاهرات التي قام بها الجيل الجامعي الواعد في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا وكانت لدواعي التعاطف مع الذي لاقاه شعب غزة من عدوان إسرائيل نتنياهو، لكانت تلك الدول بدت وكأنما فقدت الشعور الإنساني.
خلاصة القول ان العرب من خلال قمتهم الثالثة والثلاثين التي تصنَّف عادية ودورية (تنعقد كل سنة في دولة عربية وفْق الترتيب الأبجدي) إلا أنها إستثنائية بما تشاورت وصاغت من رؤية لعل أهمها وضْع خاتمة لمقولة "صيغة الدولتيْن" أو الدولة الفلسطينية" والبدء بالعمل على "مؤتمر دولي" يتخذ المنحى الجدي ويعمل وفق "أجندة" تنتظر التجاوب ومن دون تباطؤ، بأمل تفعيل حد للتهويل الإسرائيلي. فالعرب قرروا الأخذ بتجربة ولي عهد السعودية رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان ورؤاه بالنسبة إلى التنمية والتطوير والتحديث لتعويض الشعوب سنوات من إنشغال البال بالصراعات على أنواعها وبذرتها الأساسية إسرائيل. ولن تشق فكرة "المؤتمر الدولي" المشار إليه الطريق إلا بعد أن يصار إلى قراءة جديدة في ضوء نقاشات في العمق للظروف التي واكبت تأسيس وتنمية العلاقات العربية – الأميركية – الأوروبية وذلك لأن الجانب الأميركي – الأوروبي أظهر في تعامله مع المحنة الغزاوية أن ما يعنيه هو إسرائيل رغم أن الدول العربية كانت على درجة من التأني في تعاملها مع جولات الإبادة والتجويع والتدمير من جانب إسرائيل للشعب الفلسطيني في غزة. وفي ضوء القراءة الجديدة لطبيعة العلاقات العربية – الأميركية – الأوروبية يمكن أن تتبلور أمور كثيرة، كما يكون هنالك تفسير لمعنى وعبارة "العلاقة الإستراتيجية" التي كثرت الإشارة إليها وإستعمالها في التصريحات التي يتم الإدلاء بها.
أمة العرب بعد قمة المنامة في الإنتظار. لا موجب لإسطوانة الهلع من الدوران. ولا منطق لدى أميركا وأوروبا الأطلسية من إعتبار الباطل الإسرائيلي حقاً مشروعاً. فالطمأنينة للجميع هي في هداية السبيل والمباشرة بإعتماد النزاهة في التعامل إنطلاقاً من إعتماد "المؤتمر الدولي" باب الدخول إلى "الدولة الفلسطينية" وعلى قاعدة فلسطين ذات الدولتيْن.
فؤاد مطر