الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

موسم النزوح من السودان

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 2/5/2023
أفرز حجم المواجهة المستمرة في السودان الملتبسة الدوافع حتى إلى حين بين الجنراليْن المتحالفيْن بداية المتحاربيْن لاحقاً عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) محطات وأمثولات ينطبق عليها القول "رب ضارة نافعة" فقد عكست المواجهات النوايا الشخصية لكليهما بعدما كان الإنطباع الذي ساد أنهما بإنحيازهما إلى ثورة الإحتجاج المدني ضد نظام البشير يضحيان لمصلحة الشعب. وأما بالنسبة إلى الطيفيْن المدني والعسكري على حد سواء فإن ما حصل نتيجة التشبث بالرأي والعناد إلى جانب الشراهة عند سرد المطالب وكذلك التسويف وعدم الإلتزام بالوعد من هذا الطيف مرة ومن ذاك مرات، فإن ما ينطبق عليهما أوجزه في الزمن الغابر الشاعر بالقول "رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه".
كان عدم الإصغاء إلى تمنيات عربية ودولية وإقليمية بالجنوح إلى التهدئة عوض مواصلة القصف والتسبب في قتلى وجرحى وتدمير، هو أبرز المحطات، وبالذات بعدما بات جلياً للعيان إن هنالك ضحايا بفعل قذائف من طيف هذا الجنرال ضد طيف الجنرال الآخر وكما لو أن كلاً منهما ليس سودانياً إبناً عن أب عن جد، وكما لو أن الذي إنتهى جثة على طريق ليس من أبناء الوطن الواحد، مع أن مجرد كشف هذه الحقيقة المؤلمة من جانب فضائيات سجلت مشاهد لها توجب على كل من الجنراليْن ما دام مسلماً أن يوقف مغامرته العبثية ولا يترك جثثاً تتعفن تحت وطأة شمس حارقة وصلت درجة الحرارة إلى ما دون الأربعين بقليل. كما يستوجب الأخذ بإستراحة محارب أن عشرات المراكز الصحية والمشافي باتت عاجزة عن مداواة الجرحى ثم أقفل البعض الباب أمام مصابين كثيرين تجمعوا أمام مباني هذه المشافي أملاً بالمداواة.
الدواعي الموجبة للأخذ بالهدنة تلو الهدنة كثيرة، وهي تعكس ثقة المقاتل بنفسه لمن يأخذ بها في حين أن التهاون في شأنها يعني أن الطرفين في خشية أن يوقِع الأحد منهما بالآخر، وهذه ليست من شيم الجنرالات التي تليق الأوسمة بصدورهم والنجوم على أكتافهم.
كثيرة هي المحطات المأساوية التي عصفت بالسودان منذ أن ضاقت الصدور قبل أربع سنوات بنظام بدأ متأثراً إلى حد بتجربة الإمام الخميني في إيران وإعتمد "إمامه" الشيخ الدكتور حسن الترابي على ضباط في المؤسسة العسكرية لتثبيت دعائم هذا النظام وترئيس عمر البشير الذي تخلص مبكراً من عبء الوصاية الترابية عليه. وإعتمد الجنرال البشير صفة "الإنقاذ" طوال سنوات ترؤسه نافضاً باليد العسكرية القابضة الترابية الإستراتيجية، وفي ظنه أنه ﺒ "الإنقاذ" شعاراً دائماً للحكم يدوم رئيساَ مدنياً عسكرياً في الحكم بأكثر مما دام السابقان (الراحلان) جعفر نميري بعد إبراهيم عبود: جنرالان إعتبر كل منهما الطيف السياسي المدني ورقة في شجرة النظام وليس شريكاً يستأنس برأيه ويناصفه القرار. وتلك شرعة الجنرالات عموماً عندما يحكمون مستأثرين. في أي حال جاء الإختبار البرهاني _ الحميدتي بمثابة أمثولة من مصلحة الطيف المدني السياسي الأخذ بها فلا يبقى هذا التباغض فالتنافر فالإقتتال على النحو الذي إفترض كثيرون أنه سيكون مجرد جولة إختبار للشأن فإذا به يتحول إلى إحتراب دام أيام وليس واضحاً في الأفق كيف ستكون النهاية. كما ليس واضحاً بعد أمر القطبة الإسرائيلية المخفية.. والمخيفة في هذا الذي حدث وما زال.
وأما أبرز الأمثولات فهي أن صراع الجنراليْن غير المبرر وغير المطالبيْن أصلاً بخوضه من جانب الشعب السوداني أفرغ السودان في أسبوعيْن من عشرات الألوف من أشقاء وأجانب لم نكن نعتقد بأن هذا البلد العزيز على بني أمتيْه بات مقصد مئات الألوف العرب من المحيط إلى الخليج ومقصد عشرات الألوف من شرق العالم وغربه وصولاً إلى روسيا والصين والهند قدِموا إليه من أجْل تطويره وتعويضه بالتالي إنفصالاً حققه نظام البشير "الإنقاذي" حيث بات هنالك سودانان أحدهما في الجنوب إستقر بعد صراع قبلي وآخر من شأن الاستقرار تثبيت تماسكه وعدم بعثرة سائر المناطق.. وبالذات غربه الذي لا يستقر على حال.
ومن الأمثولات التي تعكس مدى أهمية الشهامة في تطييب خواطر الخائفين النازحين هي تلك التي شاهدنا عبْر الفضائيات نماذج منها وتتمثل في ملامح الفرح على وجوه الألوف من النازحين ومن كل الجنسيات الذين نقلتهم بواخر سعودية من ميناء مينة بور سودان، ووجدوا إستقبالاً في ميناء جدة خففت من الهلع في النفوس تلك الوفادة الطيبة المقرونة بعبارة الحمدالله على السلامة وبالوردة لكل نازح مع قطعة حلوى وإستراحة لبعض الوقت في فندق تمهيداً للمغادرة جواً كل إلى وطنه. ولقد إعتدنا على الميناء الجوي (مطار جدة ) يستقبل في مواسم الحج والعمرة عشرات الألوف من ذوي البشرات المتنوعة البيضاء والسمراء والسوداء والصفراء. ثم هذا الميناء البحري للمدينة إلى جانب الميناء الجوي يكتسبان صفة مينائيْ الأمن والطمأنينة للنازحين.
ولقد كنا نتمنى ألا تصل الأمور لدى الجنراليْن إلى ما وصلت إليه فلا يرتبط إسماهما وصفتاهما العسكرية بأنهما السبب في إفراغ السودان ليس فقط من أجانب وأشقاء يساعدون في تنميته وإنما أيضاً من عشرات الألوف من بني قومه بدليل هذا النزوح الألوفي لسودانيين إلى جانب أشقائهم المصريين العاملين في السودان، والترحيب بهم في وطنهم الثاني مصر المحروسة.
يصعب القول عما إذا كانت الجراح ستندمل ويأخذ الجنرالان الحالمان بالسًلطة التي ذاق كل منهما طعمها على مدى سنين بالحكمة القائلة "ما دامت لغيرك حتى تدوم لك".
كما يصعب الإفتراض بأن الذين نزحوا سيعودون. فالعودة رهن بالثقة التي أصابتها شظايا الرصاصات الجنرالية. ونقول ذلك في ضوء تجربة قاسية عاشها اللبنانيون قبل نصف قرن دام الإحتراب المشابه لجزئية من الإحتراب السوداني الراهن بضع سنوات وتسبب في أن النزوح حدث لعشرات الألوف. وها هو لبنان ضائع حتى الآن منذ ذلك الإحتراب وذلك النزوح.. تماماً كضياع سوريا وضياع ليبيا وضياع العراق وضياع أخواننا الفلسطينيين في "وطنيْهم" أو "دولتيْهم" غزة ورام الله، في إنتظار النزوح المعاكس بدءاً بالسودان أي التعامل مع سلامة الوطن على أنه القضية ومع سلامة المواطن على أنها هبة أرادها المولى لعباده وليس لأحد الحق التلاعب بها... وبالذات إذا كان جنرالاً تفكيره مغيَّب وإصبعه على الزناد.
لو كان الطيب صالح ما زال بيننا يتراوى كل منا في رحاب مكاتب "الشركة السعودية للأبحاث والتسويق" في حي "هولبورن" _ لندن وعلى هامش لقاءاتنا في مكتبي في مجلة "التضامن" المجلة التي كنت أصدرها في لندن، وفي رحاب الجنادرية في الرياض ورحاب مجلس الغائب الحاضر الشيخ عبدالعزيز التويجري رحمة الله عليه.. إن الطيب لو كان لم يرحل مأسوفاً عليه إنساناً راقياً وكاتباً روائياً متميزاً لكان رفد دنيا الثقافة العربية برواية جديدة بتسمية "موسم النزوح من السودان" إلى سابقتها "موسم الهجرة إلى الشمال" يستوحيها مما حدث.. بل ربما لو صودِف إنه كان في زيارة إلى الأهل والأحباب في السودان عند حدوث مواجهة الجنراليْن، لكان هو الآخر أحد النازحين على متن باخرة سعودية في الطريق إلى مدينة جدة التي لها في خاطره ما للعاصمة الرياض من ذكريات وجدانية عميقة.
والله الحَكَم والعدل.
فؤاد مطر