الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

جيش واحد.. لا جيشيْن كما لا "جيوش"

الرجوع

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأحد 16/4/2023

 

ما هو طبيعي أن يكون لكل دولة جيشها الوطني بتعدد أفرعه أرضاً وجواً وبحراً، وأن يكون هذا الجيش حامي الوطن والذود عن الأخطار الطارئة وأن يكون جاهزاً عند إعلان النفير لكي يؤدي الواجب على الوجه الأكمل، كما يكون تسليحه بالأحدث والمتطور في صناعة السلاح إذا توافرت القدرات المالية.

وعندما يكون الجيش على النحو الذي نشير إليه فإن إستقرار الدولة يتأمن وطمأنينة الشعب تتحقق. ولا تقتصر هذه الطمأنينة على طيف دون آخر وذلك لأن المؤسسة العسكرية مثال على وحدة الوطن حيث الأفراد من كل المناطق وإن كانت هنالك نسبة منطقة تزيد أو تقل عن أُخرى. المهم أن التمثيل شامل، وبذلك تبدو المؤسسة العسكرية وكأنما هي البرلمان الثاني للوطن مع خصوصية تتعلق بالجيش وهي أن الفرد ينفِّذ أمر القيادة فيما البرلماني ينشغل بالمناقشة أكثر. أما الذي ليس طبيعياً فهو أن يكون في الدولة الواحدة أكثر من جيش، أو على وجه التحديد "جيش" ثان أو "جيوش" وفي هذه الحال تصبح الدولة في إرتباك ما بعده إرتباك، وينتهي الأمر بالوطن عرضة للمخاطر على أنواعها. كما أن "الجيش" الآخر أو "الجيوش" بتنوع تسمياتها لا تؤدي الدور الوطني المتعارف عليه، وإنما تصبح وسيلة من وسائل الذي يتزعمها للعبور إلى مفاصل الدولة بغرض الكسب أو تحقيق طموحات سياسية، أي بتحديد أكثر دقة يمارس ذلك المتزعم الدور كلاعب سياسي ببدلة عسكرية وقبضة سلاحية وإبتكار "عقيدة" و "مبادئ نضالية.

ما نشير بالنسبة إلى "الجيش الثاني"، أو "الجيش الآخر" كانت هنالك تجربة لم تكتمل وتتمثل في السبعينات بما سمي "سرايا الدفاع" إبتكرها الرجل الثاني القوي في النظام السوري رفعت الأسد شقيق الرئيس (الراحل) حافظ الأسد، الذي أنشأ هذا "الجيش" بالتسمية المشار إليها على أساس أنها للدفاع عن نظام شقيقه. وخطوة تلو خطوة بات هذا "الجيش" بالمئات ثم بعشرات المئات وصولاً إلى أنه أصبح يتجاوز الخمسين ألف فرد، كما بات مجهزاً بأحدث أنواع السلاح، ويتخذ من الإجراءات والمواقف ما توحي بأن ما يرمي إليه الشقيق رفعت الأسد هو أن يرث شقيقه حافظ بعدما وقف على الحالة الصحية الدقيقة للرئيس الشقيق غير المعلَن عنها، وفي ذلك يقتدي بصيغة كاسترو (فيديل) وشقيقه (راوول) الذي بعد إشتداد مرض شقيقه الرئيس التاريخي تولى الحُكْم وبقي يترأس كوبا الدولة والجيش والحزب من العام 2008 وحتى العام 2018، مع ملاحظة أن كرسي رئاسته بدأت تهتز بعد رحيل الشقيق فيديل يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 والذي كان السند له الداعم لشرعيته.

لكن ما سعى إليه الشقيق رفعت وخطط لم يثمر وذلك لأن الرئيس الشقيق ولمجرد أن بات الإبن البكر (باسل) في الوضع الذي يؤهله لكي يرث الوالد حافظ قام بخطوة كتلك التي يحاولون حديثاً الأخذ بها في العراق كعلاج لإزدهار "الجيوش" التابعة لتجمعات "ميليشياوية" تملك كل أنواع السلاح وذلك في إدماجها بالجيش الرسمي (الذي جنى على العراق حاكمه الأميركي بريمر بإلغاء هذا الجيش) مع ما في الدمج من تعقيدات حيث أن عقيدة الجيش الرسمي الوطني تتناقض مع عقيدة "الجيوش" الميليشياوية بتنوع تسمياتها وأغراض إنشائها ومن هو المنشىء ومبتغاه.

ولقد تمثلت خطوة إحتواء الرئيس الشقيق (حافظ) ﻟ "جيش" شقيقه رفعت بأنه أصدر قراراً في العام 1984 وبعدما كان "جيش رفعت" المسمى "سرايا الدفاع" الذي أنشأه عام 1971 بلغ من الشأن درجة المحاذير، يقضي بدمجه في الجيش الرسمي وتحت تسمية "الفرقة الرابعة" التي هي الحرس الجمهوري. وعملياً بات الرجل القوي الثاني في النظام منزوع الشأن كرقم طموح وصعب المراس باحثاً عن شأن جديد له في الحياة العامة. ومن هنا تصويبه نحو التطلعات المدنية كرجل أعمال خارج سوريا. وبقي النظام كما أراده صانعه الرئيس الأب حافظ يورثه إلى الإبن الثاني الرئيس بشَّار بعد رحيل الإبن البكر باسل في حادث مأساوي وهو في طريقه إلى المطار مسافراً. ومثل هذا التوريث كان ضمن "أجندة" الرئيس (الراحل) صدَّام حسين وكان الإبن البكر عدي إقتبس صيغة "سرايا الدفاع" تحت تسمية "فدائيو صدَّام" لكن الأقدار كانت مأساوية هي الأُخرى حيث عصفت الريح بالصدَّامية أباً وإبنين (عدي وقصي) ونظاماً كاملاً، وبدرجة أكثر قساوة بكثير من العصف الذي أصاب رفعت الأسد وسراياه.

بعد أكثر من ثلاثة عقود تتجدد الحالة في لوحة السُلطة في العالم العربي، ونجد في هذه اللوحة مشهديْن بالغيْ التعقيد تهدأ أحوال المنطقة العربية في حال إستنباط صيغة جذرية لهما. المشهد الأول يتمثل في أن "الجيش الثاني" في لبنان ونعني بذلك قوات "حزب الله" ذات السلاح والتدريب المتوازي وربما بأهمية ما لدى الجيش الوطني، بدأ كحركة مقاومة في ظروف أوجبها العدوان الإسرائيلي على لبنان، لكنه بات ورقة في يد رمز قيادته تزيد نسبة التعقيد للأمور السيادية عند إستعمالها. وحيث أن هنالك إنفراجاً ملحوظاً في العلاقات السعودية _ الإيرانية لا بد سيترك مفاعيله على "حزب الله" في لبنان و "جيش" هذا الحزب فإن الآمال معقودة على الأخذ بصيغة الدمج الذي إعتمدها الرئيس حافظ الأسد لإحتواء "جيش" شقيقه رفعت، وبذلك يطوي لبنان الإرتباك الذي يعيشه وينطلق من جديد في إتجاه القبول به وطناً مستكيناً بدل إحتوائه وطناً مسكيناً. هنا تستوقفنا المفردات المعدلة واللافتة في إطلالات السيد حسن نصرالله ما بعد الإنفراج المتقدم بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران.

وأما المشهد الثاني فيتمثل في الذي يعيشه السودان منذ سنتيْن، وهو مشهد قريب الشبه بالذي حدث في سوريا، مع الأخذ في الإعتبار أن الحسم الذي جرى في سوريا وقضى بإحتواء "جيش" الشقيق في الجيش الوطني ليس من اليسير بمكان الأخذ به في السودان الراهن. وعلى هذا الأساس فإن صيغة حُكْم الفريقيْن (بمعنى الرتبة العسكرية) عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الإنتقالي والفريق محمد حمدان (دقلو) قائد "الجيش الآخر" المسمى "قوات الدعم السريع" سائرة إلى مواجهة هي الأُولى من نوعها في السودان الذي أتعبته المغامرات الإنقلابية. وهنا تكون ورقة السودان المدني الواقف بثبات وإجماع وصمود إلى جانب شرعية الجيش الرسمي للدولة هي التي تحول دون الصدام الذي في حال حدوثه ستكون حرب الجيشيْن في السودان جيش الدولة الرسمي والعريق وجيش الظروف الطارئة المسمى "الدعم السريع" كثيرة الشبه بحرب داحس والغبراء في الحد الأقصى وحرب سودان الجنرال جعفر نميري ضد سودان الجنرال جون قرنق في الحد المقلق. ويكون السودان عرضة لما هو أعظم من إنفصال جنوبه عن شماله.

 والله الولي والمالك والمانع والهادي.

فؤاد مطر