الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

للإحتجاج وجهان.. الحضاري والمتوحش

الرجوع


أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 29/3/2023
يسجل للبنانيين أنهم باتوا قدوة لشعوب كثيرة مغلوب على أمرها من أوضاع غير راضين عنها فإنتفض عشرات الألوف بغرض وضع الأمور في نصابها وحققوا بعض ما يأملون تحقيقه. ونعني باللبنانيين هؤلاء أنهم الذين نزلوا يوم 14 آذار 2005 إلى ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية حاملاً كل منهم العلم اللبناني. وفي خلال بضع ساعات إكتمل مشهد لم يعشه لبنان ولا حتى سائر عواصم عربية من قبل. ثم بات هذا المشهد بمثابة أنموذج ﻹشهار الغضب من جانب المواطن ضد وضع يجمع بين الظلم والإستهانة بكرامة الوطن والمواطن وكذلك ضد إجراءات يتجاوز فيها أهل السُلطة.. وبالذات البعض منهم حدود الواجب الرسمي ويتصرف على أنه الآمر الناهي.
في ذلك الإنتفاض التاريخي شكَّل عشرات الألوف الذين إلتقوا وكأن كلاً منهم صديق للآخر دون سابق معرفة يحمل علم الوطن في يمينه ويهتف بما يختص بالحرية والكرامة والسيادة. وبعد يوم لا مثيل له في تاريخ الإحتجاج وإعلان الغضب الساطع عاد كل إلى حيث أتى من ديار قريبة من العاصمة أو بعيدة عنها. وخلت ساحة الحشد التاريخي من ألوفها ومن دون أن يحدث ما حصل في إنتفاضة السنتين الأخيرتين من حُكْم الرئيس المنصرف منذ شهرين للبنان الجنرال ميشال عون حيث أن الإنتفاضة الثانية التي إنطلقت في الأيام الأولى من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019 بدأت ضمن الأصول مستوحية من إنتفاضة 14 آذار 2005 مظاهرها الحضارية، لكنها بدأت تتوحش يوماً بعد آخر وترجمت مشاعر غير مستحبة في نفوس كثيرين إلى شتائم وبعبارات تقال في تظاهرة تم تُكتب على جدران المباني والمكاتب، كما أن إحراق الإطارات أخذ دوره في هذه التحركات الإحتجاجية التي لم تثمر نتائج كتلك الإنتفاضة الحضارية.. إنتفاضة عشرات الألوف الذين بتلويح كل منهم علم الوطن وبالهتاف الخالي من العبارات غير اللائقة جعلوا من هذه الإنتفاضة التي أثمرت دفعاً حثيثاً خارج الحدود للقوات السورية التي بسطت نفوذها لسنوات في لبنان وإلى درجة أن القرار اللبناني بات عملياً نتاجاً سورياً. ثم شيئاً فشيئاً وبعد مفاعيل إنتفاضة الأعلام اللبنانية تبدلت الأحوال وبات القرار اللبناني يسترد بعض إستقلاليته.
كانت الإنتفاضة اللبنانية تلك مصدر إلهام لإخواننا المصريين الذين إستحضروا في ميدان التحرير قلب العاصمة المصرية الأسلوب الذي إعتمده عشرات ألوف اللبنانيين في ساحة الشهداء. وكانوا مثلهم حضاريين في التعبير عن الغضب الساطع ومن دون إحداث أي تخريب أو إحراق عجلات السيارات في الشوارع. هتفوا وعقدوا حلقات وحققوا الكثير من مطالبهم. بدأ نظام الرئيس حسني مبارك يتفكك ثم أكملت المؤسسة العسكرية ما عليها القيام به وضمن معادلة موضوعية. ثم خطوة تلتها خطوات تبدلت الأحوال إلى أن بات الرئيس الذي حكم أكثر من سلفه أنور السادات ومن السلف الساداتي (جمال عبدالناصر) قيد الإعتقال. وتطورت الأمور بحيث بات هنالك محاكمة وبات منبر ثورة 23 يوليو 1952 (صحيفة "الجمهورية" تصدر يوم الخميس 4 رمضان 1432 الموافق 4 أغسطس/آب 2011 وصفحتها الأُولى كاملة للرئيس مبارك متهماً وبعنوان رئيسي "بأمر الثورة.. مبارك في القفص" وعناوين فرعية "القاضي نادى المتهم محمد حسني السيد مبارك.. فردَّ أفندم" و "يوم لا ينفع مال ولا بنون. الحابس يُحبس ولو بعد حين").
بعد إخواننا المصريين جاء إخواننا السودانيون ليس فقط يستحضرون الإنتفاضة المصرية الحضارية المستلهمة إنتفاضة اللبنانيين التي عُرفت بإنتفاضة أعلام الوطن ولا أعلام آخرين من أحزاب وتيارات وحركات وجمعيات كما بات مألوفاً وضاراً كثير الضرر بعد ذلك في سنوات الرئيس ميشال عون، وإنما طوَّر عشرات الألوف من شبان وشابات السودان ومن معظم ولايات الوطن الإحتجاج أفضل تطوير وبحيث باتت العاصمة المثلثة الخرطوم رمزاً مضيئاً للإحتجاج الحضاري، خصوصاً بعدما حدثت مفاجأة ليست في الحسبان وهي أن صحوة داخل مؤسسة الجيش ترجمها عدد من كبار الضباط إلى فعل غير مسبوق حيث بات الإحتجاج بإلتفاف العساكر حول الجماهير الغاضبة وليس الإلتفاف عليهم، يسبغ على ما حدث صفة "إنتفاضة الجنرالات الشعبية" بمعنى المشاركة الفاعلة بين الجانبيْن وبذلك دخل الإحتجاج بنداً متطوراً في مشهد الغضب وهو أن الإحتجاج الشعبي وحده لا يثمر فيما الإحتجاج المشترك يحقق وإن على المدى البعيد خروج الوطن من نفق المغامرات الإنقلابية على أنواع بياناتها وجنرالاتها.
ما كان لافتاً للإنتباه أن الإسرائيليين كانوا في تظاهرات الإحتجاج التي هزت عنفوان رئيس حكومتهم نتنياهو مستلهِمين في إحتجاجهم إنتفاضة اللبنانيين حملة أعلام الوطن ومن دون إشعال حرائق عجلات السيارات وكما حققت الإنتفاضة اللبنانية الغرض أي الجلاء العسكري مع بقاء التأثير السياسي وهو النصف الثاني في عهدة "حزب الله" و "حركة أمل" و"التيار الوطني الحر" و"الحزب القومي الاجتماعي و"البعث اللبناني" وجمعيات مستترة إحترام الغير لفعلهم الحضاري، فإن الإنتفاضة الإسرائيلية وهي أيضاً إنتفاضة الأعلام كما تابع العالم أيامها حققت نصف الغرض مستلهِمة هنا إنتفاضة جنرالات وضباط عسكريي السودان وقبل ذلك عسكريي مصر مع إنتفاضة ميدان التحرير، حيث أن بنيامينهم العنيد المتقمص أسلوب دونالد ترمب، تراجع عما أراده في شأن ثوابت قانونية كما تراجُع حكومة لبنان برئاسة نجيب ميقاتي عن قرار موحى له ويتجاوز إعتماده الكثير من الأصول ويتعلق بما عُرف بتقديم الساعة. أما النصف المتبقي من عائد الإحتجاج الإسرائيلي الحضاري فيتمثل في أن نتنياهو باق إلى حين عصفة إحتجاجية لاحقة أو تفعيل القضاء في حقه بحيث قد ينتهي مستقيلاً وقيد المحاسبة والمحاكمة.. أيضاً كما حال ملهِمه دونالد ترمب.
وأما الإنتفاضة التي تدعو إلى الكثير من الدهشة لجهة أدوات تعبير المنتفضين فإنها الإنتفاضة الفرنسية التي تابع العالم بدهشة حدوثها، كون بعض محطاتها من إشعال حرائق في أهم شوارع ومناطق العاصمة الفرنسية وحرائق فرع مصرف وما تسببت به مكبات وأكياس الزبالة المتراكمة في الشوارع هي توصيفاً من أساليب الإعتراض التدميري والإنتفاض المتوحش، عِلْماً بأن دواعي إطالة سُن التقاعد سنتيْن كانت للمصلحة العامة على المدى القصير في كثير من مقتضياتها. وإذا قيس فقدان موارد السياحة طوال أيام الإنتفاضة كما بعض مراحل الإنتفاضة في العهد العوني المدعوم من "حزب الله"، بسبب الفوضى والحرائق وتعطُّل المصالح الخاصة والرسمية، فإن تصنيف هذه الإنتفاضة بأنها على درجة من التوحش وفي بلد شعاره الحرية والمساواة والأخوَّة وموصوف بأنه بلد النور، يصبح التصنيف الموضوعي. كما يصبح التمني لو أن هذه كانت بمثل الإنتفاضة اللبنانية.. إنتفاضة الأعلام الوطنية والإنتفاضة المصرية وبعدها السودانية فالإسرائيلية. والثلاث من النوع نفسه.
ويا ليت الحكومة في كل دولة عربية بالذات تغني المواطنين عن ضرورة الأخذ بالإنتفاضة لتحقيق ما يُستلب منهم دون أوجه حق.. والله الحفيظ والمغيث.
فؤاد مطر