الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لو يحذو بوتين حذو عبدالناصر

الرجوع


نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأحد 26/3/2023
الآن وقد إزداد سعير نار حرب الرئيس فلاديمير بوتين على الغرب الأطلسي في صيغة صواريخ كلامية أوكل أمر إطلاقها إلى حليفه دمتري ميدفيديف الحالم ضمناً (ما دام يشغل منصباً أمنياً شديد التأثير_ نائب رئيس مجلس الأمن القومي) بوراثة بوتين في حال حدوث طارئ ما وعلى قاعدة أن الأشد ولاءاً بين حلفاء الرئيس هم الأولى بحق التوريث، فقد بات جلياً أن قذيفة المحكمة الجنائية الدولية أمست تقض مضجع قيصر الكرملين ولا يخفف سوى خطوة بالغة الأهمية من الأثر الإهاني على زعامته رغم كون روسيا ليست من الجمع الذي وقَّع على إنشاء هذه المحكمة قبل 21 سنة كان ضابط المخابرات زمنذاك ما زال رقماً أمنياً مغمور الشأن في ظل رئيسيْن عابريْن توارثا السُلطة بعد تناثُر الدولة العظمى الإتحاد السوفياتي وهما غورباتشوف ويلتسين. فالإهانة حاصلة من حيث أنها فِعْل أوروبي بطلب من إدارة الرئيس بايدن الذي عطَّل عملياً خطة بوتين في أن حربه على أوكرانيا لن تستغرق أكثر من أيام ويحسم أمرها إخضاعاً لرئيسها فولوديمير زيلينسكي بعدما رمى نظامه بتهمة الفاشية والنازية معتبراً أن تذكير الأوروبيين بالفعل الهتلري يجعلهم يغضون الطرف عن الفعل البوتيني.. هذا من دون أن يندرج في الإحتمال أن الخصم الأميركي _ الأوروبي أضمر من خلال إدراج أوكرانيا في المجمع الأطلسي إختبار مدى القدرات وطبيعة الإستراتيجيات الروسية وهذا يتحقق من خلال إغتنام توق بوتين إلى إقتسام الشأن الدولي. وهكذا تحوَّل الخيار الروسي حرباً على أوكرانيا فرصة للإختبار المشار إليه ولإستنزافه وكشْف كامل أوراقه وتطلعاته التي لم يفصح عنها ثم جاء ميدفيديف ليتولى التذكير بما معناه "إن أغلب أوكرانيا الحالية كان جزءاً من الأمبراطورية الروسية القيصرية" وكذلك الإيحاء بأن مخطط بوتين هو على المدى غير البعيد في حال إستعاد أوكرانيا أن تشمل الإستعادة بالتدرج دول "أوروبا الشرقية" التي كانت أطرافاً في صيغة أنظمة شيوعية ثم شقت رومانيا والنصف الشرقي من ألمانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا الطريق نحو مجتمع الدول المستقلة وذات النظام الديمقراطي لينتهي بها الأمر أعضاء في الحلف الأطلسي وكذلك في المحكمة الجنائية الدولية التي رغم عدم إنتساب الولايات المتحدة لها كما روسيا والصين والهند، إلاّ أنها من مقرها الهولندي سلاح معنوي بالغ الأهمية حيث مجرد إتخاذها قراراً بإدانة رئيس دولة كبرى مثل بوتين فإن ذلك يشكل إحراجاُ بالغ الحساسية لزعامته بمعنى أن بوتين عرضة لتطبيق العقاب عليه في 121 دولة أعضاء في الأمم المتحدة. وبذلك لن يكون في الإمكان زيارتها.
ورغم جسارة حليفه الطموح ميدفيديف وقوله وبصيغة المتخيل لمجرد توقيع أوكرانيا إتفاقاً مع المحكمة لإنشاء مكتب لها في كييف "لن يحدث أبداً لكن إذا تم إعتقال بوتين سيكون ذلك إعلان حرب على روسيا الإتحادية وفي تلك الحالة كل أصولنا الحربية وكل صواريخنا ستحلِّق صوب مكتب المستشارية ومبنى البوندستاغ (أي برلمان المانيا). إن المحكمة الجنائية الدولية كيان قانوني لا قيمة له...". وهذه النبرة من ميدفيديف لا تخدم ما يضمره في أن يخلف بوتين، مع الأخذ في الإعتبار أنه بما قاله أزاح من لسان صديقه الرئيس المبتلى بالحرب التي دخلت سنتها الثانية ولا بوادر في الأفق لحسمها، إضطراره للإدلاء بكلام يزيد الإرتباك إرتباكاً.
وهكذا فإن الكلام التهديدي غير المرحَّب به دولياً حتى من الحليف المتعقل (الصين) يتوجب من جانب بوتين إطفاء غليل كلام حليفه، والبحث في ما يجعل الدعوة إلى إعتقاله للمثول أمام المحكمة الجنائية وكأنما هي مجرد خاطرة إستفزازية كان من الحكمة بمكان عدم إصدارها لأن المستهدَف ليس من رؤساء دول على قد الحال مثل أوغندا والكونغو والسودان وأفريقيا الوسطى وإنما رئيس دولة عظمى يستطيع في لحظة عزْم غاضب أن يضغط على أحد أزرار حقيبته النووية فتتحول المدن المزدهرة في أوروبا إلى ركام.
هنا يجد المتابع مثل حالي ككاتب وصحافي ومحلل للتطورات الراهنة ربطاً بظروف غابرة أتساءل: لماذا على سبيل المثال لا الحصر لا يأخذ الرئيس بوتين في العام 2023 ما سبق أن أقدم عليه قبل 62 سنة رئيس عربي لا تقل زعامته في محيطه الإقليمي عن زعامة بوتين مع إختلافات طفيفة في الحالة الموجبة لكل منهما.
في الأيام الأولى من شهر يناير/كانون الثاني 1958 فوجئ الرئيس عبدالناصر وهو في الأقصى زائراً مع ضيف مصر صديقه رئيس أندونيسيا أحمد سوكارنو، الذي كان ركناً من حركة عدم الإنحياز التي ضمت شو ان لاي ونكروما وجواهر لال نهرو، بإتصال من مكتبه في مقر الرئاسة لإبلاغه أن طائرة سورية حطت في مطار القاهرة وتحمل عشرين ضابطاً أتوا لإبلاغه ضرورة إقامة وحدة مع سوريا خشية سقوطها في أيدي أحد ثلاثة أحزاب(الحزب الشيوعي. الحزب السوري القومي الاجتماعي. حزب البعث العربي الإشتراكي). فقد إستقطبت الأحزاب ضباطاً في المؤسسة العسكرية وباتت سوريا تبعاً لذلك على مشارف السقوط في أيدي أحد هذه الأحزاب مما سيترتب على ذلك حرب أهلية.
إستساغ عبدالناصر بعد التأمل في المطالب وإصرار الرئيس السوري شكري القوتلي المهدَّد كرسيه من جانب الحراك الحزبي، والذي حضر بدوره إلى القاهرة مع نخبة من رموز العمل السياسي، على إعلان خطوة وحدوية الغرض منها إنقاذ سوريا. وخلال أسبوعين وتحديداً يوم 1 فبراير/شباط من العام نفسه 1958 تم التوقيع على ميثاق يعلن قيام وحدة بين القطريْن بتسمية "الجمهورية العربية المتحدة". بعد ذلك زار عبدالناصر دمشق وكان الترحيب الشعبي لافتاً الأمر الذي يعني أن هذه الوحدة "لن يغلبها غلاَّب" على نحو ما صدحت به حنجرة مطربي إحدى الأغاني الوحدوية.
هذه الخطوة أضافت إلى قرار تأميم قناة السويس المزيد من الشأن لعبدالناصر الذي بات رئيساً لدولة كبرى على كتف أفريقيا ودولة على كتف فلسطين التي باتت محتلة وله فيها ذكريات خلال المشاركة في حرب 1948 التي لم تثمر تحريراً لها وباتت هنالك دولة إسرائيل.
لكن ما كان مأمولاً في حساب زعامته لم يكتمل، ذلك إن مجموعة من الضباط نفَّذت يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1961 إنقلاباً قوَّض الوحدة. وباتت مصر في عهد الرئيس (الراحل) أنور السادات تحمل تسمية "جمهورية مصر العربية" وعادت سوريا القُطر الشمالي تحمل تسمية "الجمهورية العربية السورية".
كان في إستطاعة عبدالناصر ضرْب العملية الإنقلابية ولقد خطرت الفكرة في باله، مستنداً في ذلك إلى أن سوريا كانت فرعاً أو قطراً في دولة هو رئيسها ومن حقه بموجب الدستور والقوانين المتبعة قمْع الإنقلاب. ولكنه إعتبر الفعل الحربي، أي إرسال طائرات تقصف الإنقلابيين وتشل حركتهم وتعود سوريا كما كانت على مدى سنتين وبضعة أشهر قطراً شمالياً شقيقاً للقطر الجنوبي محتضنيْن في دولة "الجمهورية العربية المتحدة" خياراً مأساوياً.
بما إرتآه عبدالناصر صان مصر وسوريا في الوقت نفسه ولم يورط الدولتيْن في عداوات لا تنتهي. كما أنه إحترم إرادة الشعب الذي رحب خير ترحيب به عند قيام الوحدة ثم إرتأى الأخذ بالتغيير بعد إخفاقات في تيسير أمور التجربة الوحدوية.
من هنا يأتي التساؤل: لو يحذو بوتين حذو عبدالناصر أما كان ذلك طوق تخفيف إستهانات به وصلت إلى حد مطاردته ببدعة محكمة جنائية وكأنما الأمر بهذه البساطة.
لعل القمة العربية الدورية التي ستنعقد في الرياض بعد العيد تكون خير مناسبة لإستضافة فلاديمير الروسي وفولوديمير الأوكراني وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، عِلْماً بأن حضور قامات دولية كضيوف شرف في مؤتمرات عربية تقليد مألوف ومستحَب. وبالنسبة إلى بوتين منجاة له من العبث الأطلسي _الأميركي. وعلى الله إتكال المضيف ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان صاحب المبادرات الإستثنائية. وهذا ما عنيناه في بداية مقالنا حول الخطوة البالغة الأهمية التي تزيل الإهانة الإستخفافية من جانب كبار لكبير في عالم الحكم والحكام.
فؤاد مطر