الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

النصح بمفردات البلاغ رقم واحد الروحي

الرجوع


نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 16/3/2023

كانت بمثابة صاعقة نزلت قبل أيام على أدبيات التخاطب بين رموز العمل السياسي في لبنان، كون أطراف هذا التخاطب يشغلونالمكانات السياسية والدينية والمجتمعية. ولقد أظهرت أنواع التخاطب بين هؤلاء الرموز أن كلاً منهم ليس في الحرص الكافي على إخراج الوطن من الهوة السحيقة التي بات عليها معيشياً ووطنياً، وإنما الذي يعنيه مقامه حتى إذا كان على حساب كرامات الآخرين.

وعندم تكون هذه أدبيات التخاطب وبالصوت الأعلى مقروءاً في صحيفة أو مبثوثاً عبْر الأثير أو الشاشة أو مواقع التواصل، لا يعود مستغرَباَ أن الأزمة التي يعيشها لبنان طالت وتعقدت نتيجة مواقف تتسم بعض كلماتها بالتجريح وأن كثرة التلاوم المتبادل حيث هذا يلوم ذاك وأولئك يلومون هذا لا تجدي نفعاً. كما أن كثرة التذكير في مناسبات خطابية أو من خلال تصريحات بفائض القوة تتسبب بتباعد المشاعر الوطنية. ونجد أنفسنا نرى أنه لولا الكلام الذي يقال بعضه أسبوعياً وبعضه الآخر في مناسبات من المرجعيات الروحية لكان الميدان السياسي بات أشبه بحلقات مصارعة كلامية. ومع أن ما نسمعه من رموز المرجعيات الروحية يتسم بالنصح والحكمة والقول الليِّن إلاّ أن هذه المرجعيات باتت وقد تجاوز التعطيل المتعمد من جانب رموز العمل السياسي والحزبي حده ترى على ما تجوز قراءة النوايا إتخاذ وقفة تتجاوز النصح إلى الحزم، بل وما هو أكثر من ذلك، أي بما يجوز إفتراضه تنعقد قمة روحية جامعة حاسمة تنتهي بما يشبه البلاغ رقم واحد في ظاهرة الإنقلابات العسكرية، ويستتبع هذا البلاغ الحامل تواقيع المرجعيات ما دام يطالب بتأدية الواجب وإنتخاب الرئيس الجديد للجمهورية إستيلاد رئيس لها. هذا مع الأخذ في الإعتبار أن بعض العبارات جاءت حازمة مثل تلك التي صدرت من هذه المرجعيات على مدى أشهر سبقت خلو الرئاسة من شاغل ثم بعد أن إنصرف الرئيس الجنرال ميشال عون خاسراً التطلع إلى تمديد لرئاسته يحقق فيها مبتغاه بترئيس صهره الذي إستمر يعيش أربع سنوات رئاسية في حلم أنه هو مَن سيزكيه "حزب الله" وليس سليمان فرنجية. ومن العبارات تلك قول البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظة قداس يوم الأحد 19 فبراير/شباط 2023 وبما يمكن إعتبار الكلمات بمثابة مفردات بلاغ روحي رقم واحد "أيها المسؤولون السياسيون والنواب والنافذون والمعطِّلون بوجه أو بآخر لقد حولتم عرس لبنان وشعبه وجمال طبيعته وغنى موارده إلى مأتم كبير ووشحتموه برداء أسود من الفقر والجوع والحرمان والتهجير تهجِّرونه من وطنه وتفتحون أبوابه لمليونين وثلاث مئة ألف نازح سوري ما بدا يفوق نصف الشعب اللبناني. ترفضون أي نصيحة من الدول الصديقة والحريصة على إستقرار لبنان وإستعادة قواه وكل دعوة ملحة لإنتخاب رئيس للجمهورية فتدَّعون ذلك تدخلاً ومساً بكرامتكم. إنهم يريدون حماية لبنان منكم، من كل عدو له يأتيه من الداخل وإنتشال الشعب من براثن أنانيتكم وكبريائكم ومشاريعكم الهدامة. فلا لبنان خاصتكم، بل خاصة شعبه ولا الشعب غنيمة بين أيديكم بل غنى لوطنه لبنان، فإرفعوا أيديكم عن لبنان وشعبه. هذه الصرخة نستودعها رحمة الله.. الإله العادل...".
ويندرج الكلام الجديد من حيث التحذير والخشية مع لاءات أطلقها البطريرك الراعي قبل بضعة أشهر (قداس يوم الأحد 11 سبتمبر/أيلول 2022 في مقره الصيفي _الديمان) وبدت من حيث الضغط النفسي الموجب لإعلانها بالصوت الأعلى كثيرة الشبه ﺒ لاءات القمة العربية الإستثنائية في الخرطوم (أواخر سبتمبر1967). وأما اللاءات الراعية التي إنتهت صرخة في واد عكس لاءات القمة التي أبقت الوضع السياسي العربي على درجة من التماسك فإنها "لا نسكت بل نرفض شل البلاد. لا نسكت بل نرفض تعطيل الدستور. لا نسكت بل نرفض إستباحة رئاسة الجمهورية. لا نسكت بل نرفض الإجهاز على دولة لبنان وميزاتها ونموذجيتها ورسالتها في هذا الشرق وفي العالم...".

ما يجوز قوله إن الرمز الروحي للطائفة المارونية.. طائفة رئيس الجمهورية جعلت من عظات القداديس في معظمها موقفاً سياسياً حازماً، وذلك نتيجة أن سياسيي الطائفة وزعماء أحزابها يغردون على أغصان أشجار حدائق تطلعاتهم الحافلة بكل أنواع ثمرات التحدي غير هيابين أي حال بات عليها لبنان والتي أوجزها مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان (ومصادفة في اليوم السابق للبلاغ رقم واحد الروحي للبطريرك الراعي) ولمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج بعبارة "كل خدمات الدولة الوطنية وميزاتها سقطت في الأعوام الثلاثة الأخيرة. لقد صرنا أعجوبة العالم وفضيحته...". كما مصادفة قول متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة قبل ذلك "ما نشهده تنازُع على السُلطة يتبادلون الإتهامات والكل متهم والكل بريء".
كما ما يجوز قوله أن سياسيي الطائفة وزعماء أحزابها يطرقون أبواب الصرح البطريركي من أجْل إلتقاط صورة مع سيد الصرح يوظفونها في أوساط جمهورهم أو تمييزهم بتناول الغداء إلى مائدته وهذا توظيف مضاف من جانبهم لمكانتهم الانتخابية. وحتى أن حضورهم القداديس موسمية. وعندما بدأ رمز المرجعية الروحية للطائفة يوجه النصح تلو النصح والتحذير تلو التحذير فإنهم لم يقفوا إلى جانبه معتبرين أنه فقط يستهدف بتحذيراته وتنبيهاته من الأعظم الآتي الطيف اللبناني الذي يوالي إيران وفي الوقت نفسه يعكر العلاقة مع الدول العربية، مع أن مضمون التحذير يشمل رموز الطيف السياسي الماروني الذين في بقاء تحديات بعضهم لبعض فإرتهان بعض آخر لمشاريع لا تقتصر على الإستحقاق الرئاسي، ما يجعل الأزمة تزداد تعقيداً.
وعلى هذا الأساس فإن مضمون ما حوته مفردات ما يُعتبر البلاغ رقم واحد الروحي، قد ينتهي إما إلى أن يأخذ الطيف السياسي والحزبي الماروني برؤى المرجعية الروحية فيسلم لبنان وإما سترفد المرجعية واجباً وإضطراراً بلاغها الأول بالبلاغ الرقم الثاني مسمياً التعطيل بمسببه الممانع والمعاند.
عسى ولعل يأخذ النواب المسيحيون (الموارنة بشكل خاص) بما أبدى البطريرك الراعي في عظة قداس لاحق (الأحد 12 مارس 2023) "الأمل منهم تأدية يوم رياضة روحية يكون صوم وصلاة وتوبة ومصالحة…". وقصده أن يكون إفطار هذا اليوم إجتراح معجزة الإتفاق على إنتخاب رئيس ينجي الوطن من الحالة غير الكريمة التي يعيشها في دنياه وينجيهم من العقاب الإلهي في آخرتهم. والسلام على مَن إتبع الهدى.
فؤاد مطر