الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

بتوافر حُسْن النية تطمئن النفوس

الرجوع


أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس13/3/2023

لو كان حُسْن النية متوافراً لدى أهل الحكم في أثيوبيا وبالذات كبيرهم رئيس الحكومة أبي أحمد، لما كُتب للأزمة الناشئة عن "سد النهضة" الذي فاجأت به أثيوبيا الجار السوداني فالجار المصري أن تطول وتصبح على ما هي عليه تنذر بمخاطر تنعكس على العلاقات.. وربما مواجهة في حال تغلَّب العناد على التبصر والحكمة وأخْذ الأمور بالتي هي أحسن، وذلك بإحتواء مضاعفات ما ينتج عن التشغيل، للسودان بنسبة يمكن أن يتحملها فيما ستتأثر مصر بالغ التأثير عندما تبدأ كمية حصتها من مياه نهر النيل بالتناقص بفعل التشغيل الكامل للسد وهي التي في الأصل بدأت عملية ترشيد لإستعمال المياه.
لقد نبهت مصر مراراً ومنذ تجربة التشغيل الأُولى للسد، ودخلت على خط الأزمة دول عربية وأجنبية من بينها الولايات المتحدة وحكماء دول القارة الأفريقية. وكانت المناشدات في معظمها تنحصر في أن يكون التعامل بالتفاهم والتبصر مع موضوع "سد النهضة" بعدما بات أزمة ونشوء أجواء متوترة في العلاقات مصحوبة بكتابات كثيرة الحدة أحياناً وتصريحات لا تخلو مفرداتها هي الأُخرى من الحدة، وهذا ناشىء عن إستباق مصر للمضاعفات.. بل للمخاطر التي ستنشأ عن تشغيل السد. ونشير في هذا الصدد إلى أن التشغيل سيولِّد الطاقة التي تستفيد منها دول أفريقية عدة تحتاج إلى ما ينقصها من الكهرباء، لكن مزارعي مصر سيجدون حقولهم تفقد بعض خضرتها وربما ستتيبس مشاريع زراعية كثيرة نتيجة إقتطاع نسبة من المياه عند تشغيل السد. وبإختصار فإن المعادلة ستصبح: كهرباء بنسبة كبيرة جداً لصاحبة السد دولة أثيوبيا عوائد تسويقها للدول الأفريقية بالمليارات. وكساد بنسبة كبيرة في مصر للمواسم الزراعية، وخسارة تبعاً لذلك بالمليارات. وهنا لا تعود الأزمة عادية بل يصبح الحل بالقوة لمَن إستطاع إليه السبيل. ومن حيث المقارنة النسبية فإن مصر مثل روسيا شأناً سياسياً وعسكرياً وأن أثيوبيا بالمقارنة نفسها مثل أوكرانيا، ويا ويل القارة إذا ساد منطق الحدة فالمواجهة بدل الأخذ بالتي هي أسلم وأكثر إفادة للطرفيْن.
والذي يلفت الإنتباه أن الجانب الأثيوبي لا يبدي الإصغاء الكافي لما يصدر من حكومات أجنبية وأفريقية مع أن لفت إنتباه يأتي من دول كبرى (أميركا) أو من مجمعات دولية مثل التجمع الأفريقي يشكِّل خير غطاء لممارسة الليونة من الجانب الأثيوبي، أي بما معناه يقول أهل الحكم في أثيوبيا أنهم عند تمنيات المجتمع الدولي – العربي _ الإقليمي زائداً التفهم الموضوعي لظروف دول الجوار ستأخذ الحكومة الأثيوبية بصيغة التشاور مع كل من مصر والسودان وتحت خيمة الأمم المتحدة بما يعطي كل ذي حق حقه، وأما إذا أرادت دولة تسليف جزء من حصتها فإنها تفعل ذلك بكامل الرضى وطيب الخاطر. أليس الجار للجار. وأليس الرسول (ص) أوصى بسابع جار… فكيف بالجار الثاني (مصر) بعد الجار الأول (السودان).
وتبقى الإشارة إلى أن مناسبة هذه الإضاءة على أزمة "سد النهضة" هي أن الكلام المصري الأحدث حولها، يركز على إستباق المخاطر، وصادر عن وزير الخارجية سامح شكري الذي إغتنم مناسبة إنعقاد أعمال المجلس الوزاري العربي (وزراء الخارجية) يوم الأربعاء 8 مارس/آذار 2003 في مقر الأمانة العامة للجامعة ليدعو الدول العربية إلى التمني أو الضغط كل دولة، وفق تقييمها للحالة، على أثيوبيا من أجْل الأخذ بأي من الحلول الوسط التي على حد ما تراه مصر تحقق مصالح أثيوبيا الاقتصادية من دون الإفتئات على مصائر شعوب دولتيْ المصب مصر والسودان، موضحاً ما سبق أن أوضحتْه مصر في شخص رئيسها ووزير الري فيها وأُولي الخبرة في قضايا المياه والزراعة "أن هذه القضية محورية ذات أولوية ولها تبعات مصيرية على أمن مصر القومي وأن للممارسات الأحادية على أحواض الأنهار المشتركة مخاطر ويُعد بناء السد الأثيوبي أبرز تجلياتها الراهنة في ضوء الإستمرار في عملية ملء وبناء السد دون التوصل إلى إتفاق قانوني ملزم مع دولتيْ المصب ويُعد ذلك إنتهاكاً لقواعد القانون الدولي وعدم إلتزام بالبيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في سبتمبر/أيلول 2021".
كان من شأن إغتنام قمة الإتحاد الأفريقي يوم الجمعة 17 فبراير/شباط في أديس أبابا أن يغتنم الرجل القوي في النظام الأثيوبي رئيس الحكومة أبي أحمد، الذي هو رمز أزمة "سد النهضة"، إنعقاد القمة ويضع أمام القادة المشاركين (35 بين رئيس دولة ورئيس حكومة) تلك الأزمة ويطلب منهم تسوية أفريقية ثابتة للأزمة. وبذلك كان سيبدو حريصاً على أن تأخذ كل من الدول الثلاث: دولة السد (أثيوبيا) ودولتا الجوار (السودان ومصر) نصيبها وفي إطار قانوني (القانون الدولي المكتوب. وقانون الجوار الأخوي).
على مدى ثلاث سنوات والحال على ما هي عليه من التسويف. تتمنى مصر على أثيوبيا أن تستدرك مفاعيل أزمة قد تفرز متاعب ومواجهات وتطلب ثم تطالب أطرافاً إقليمية ودولية ببذل المسعى الذي يضع الأمور في نصابها وبحيث لا يكون هنالك الأمر الواقع. وشملَ السعي الإدارة الأميركية في زمن الرئيس ترمب ونظيرتها الروسية وحالياً الزعامة الصينية في شخص رمزها شي جينبينغ. وفي البداية ساد إفتراض بأن رجل أثيوبيا القوي أبي أحمد لا يتجاوب مع أي مسعى يحقق تسوية موضوعية لأنه سيخوض إنتخابات تحقق نتائجها تجديد رئاسته في حال وظف ملء "سد النهضة" وبدأت العوائد تغذي الميزانية الأثيوبية التي أرهقها الصراع العسكري مع الإقليم الخارج على الطوع (تيغراي). ولقد حقق المبتغى لأن نتائج الإنتخابات جاءت لمصلحته وإعتبرها تاريخية. وساد شعور لدى أهل الحكم في كل من مصر والسودان أن روسيا التي واصلت شق الطريق نحو أفريقيا يمكنها بذل مسعى، وبدأ الرئيس عبدالفتاح السيسي يحذر من مواصلة أثيوبيا عدم حسم الأمور والتجاوب مع إرادات دولية نادرة الإلتقاء على موقف موحَّد تمت ترجمته في بيان أصدره مجلس الأمن الدولي (سبتمبر/أيلول 2021) يشجع مصر وأثيوبيا والسودان على إبرام إتفاق ملزم وتحديد فترة زمنية لإنجاز ذلك خشية أن يكون هنالك مماطلة.
عند الملء الأول سجلت مصر موقفاً إحتجاجياً مقروناً بالتمنيات أن يكون الملء تجربة تشجع على الشروع في عقد الاتفاق. لم يحدث ذلك. وبدت أثيوبيا في ذلك كمَن تريد القول: ألم تحقق مصر عبدالناصر في الخمسينات_ الستينات مكاسب من مياه النيل الذي ينبع من بلدنا وشيدت سد اسوان العالي، وهل كانت تلك الإستفادة موضع إعتراض من أثيوبيا. ولكن سكان مصر قبل نصف قرن كانوا في حدود الأربعين مليون نسمة بينما العدد الآن يتجاوز المئة مليون. وما يصدر من مصر عن إنشغال بال في ما يتعلق بالمياه يوضح كم أن المسألة بالغة الأهمية ليس للزراعة فقط وإنما للإستهلاك اليومي البشري.
خلاصة القول أنه بتوافر حُسْن النية تطمئن نفس الجار من جاره كما بذكر الله تطمئن القلوب، وما ضاع حق وراءه مُطالب مثل مصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي الذي خطواته دائماً محسوبة داخلياً وعربياً وخليجياً وإقليمياً ودولياً، والذي دائماً أيضاً منشغل البال في ما يخص الواقع الإقتصادي والغذائي والإستثماري داخلياً.. هذا إلى الوضع الليبي غير المحسوم ومثيله الوضع السوداني والأزمة مع أثيوبيا في شأن "سد النهضة" الذي يتطلع إلى وقفة عربية تصل إلى مرتبة الموقف من جانب القمة الآتي إنعقادها في الرياض الشهر المقبل. وهذا ما يجوز إستخلاصه من حَراكه السياسي وزياراته وبالذات تلك الأحدث إلى المملكة العربية السعودية للتباحث والتشاور مع ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان ثم في تباحثه مع زائر مصر رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
وما نتابعه من صفاء متدرج في المشهد العربي _ الإيراني _ الصيني معطوفاً على ملامح تواضع وتفهم أميركي يجعلنا أكثر ثقة بأن التفاؤل بخير القمة الموعودة... سيجده الجميع.
فؤاد مطر