الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

مَن سيفوز بالجوهرة السوداء

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 1/3/2023


هنالك نوع من المنافسة، أو لعله السباق، من جانب أطراف دولية وعربية للفوز بالجوهرة السوداء أفريقيا.
في حقبة الستينات كانت مصر عبدالناصر البادئة بوضع أفريقيا على جدول إهتمامات الحقبة الناصرية، فمصر جزء من هذه القارة وأحد ملامح قسمات الوجه العربي _ الأفريقي إلى جانب دولة الجوار الأقرب السودان وبعض الدول العربية ذات المسحة الأفريقية.. دول المغرب العربي.
إستطاع عبد الناصر أن يوقظ في نفوس بعض القادة الأفارقة وبالذات باتريس لومومبا وسيكوتوري إحساساً عميقاً بالوطنية الأفريقية. كما صوَّب الاهتمام غير الثوري في إتجاه أثيوبيا وبما لا يسبب هواجس لأمبراطورها هيلا سيلاسي. لكن من جهة أُخرى حفَّزت الناصرية ذات الثوب العسكري ضباطاً في عدة دول أفريقية لكي ينفِّذوا إنقلابات ودخلت القارة السوداء في متاهات وصراعات جاءت على حساب التنمية، وبذلك إزدادت بعض الدول فقراً. يضاف إلى ذلك أن فرنسا التي لها حضور فاعل على بعض دول القارة لم تساعد في التنمية شأنها في ذلك شأن بريطانيا، مع فارق أن بعض دول الكومنولث البريطاني قادرة على تنمية إقتصاداتها، فيما دول "الكومنولت" الفرنسي نقيض ذلك.
هذا اللإهتمام من جانب فرنسا ثم عدم إدراج هموم دول القارة في خرائط الطريق الرئاسية، جعل الولايات المتحدة تسجل إهتماماً متأخراً بالدول الأفريقية، ثم يقرر الرئيس ماكرون إحياء الاهتمام خصوصاً بعد حدوث إستغناء دولتيْن (مالي وبوركينا فاسو) عن وجود بضعة ألوف من الجنود والخبراء العسكريين الفرنسيين في الدولتيْن والطلب منهما سحْب الجنود والخبراء وعلى نحو ما فعل الرئيس المصري (الراحل) أنور السادات حين باغت الكرملين وفي خطاب جماهيري مبثوث إذاعياً وتلفزيونياً يوم الثلاثاء 8 يوليو/تموز 1972)بإنهاء الوجود العسكري السوفياتي في مصر وتسفير ما سُمي "الخبراء السوفيات" على وجه السرعة الأمر الذي حمل أول "ترويكا" الزمن السوفياتي الغابر (ليونيد بريجنيف) على إيفاد ثالث "الترويكا" نيكولاي بودغورني) إلى القاهرة وفي حقيبته نص معاهدة باللغتيْن الروسية والعربية لكي يوقعها الرئيس السادات أولاً ثم يعود بها بودغورني الذي وقَّع عليها إلى موسكو عودة غير مظفَّرة بأي حال للمهابة السوفياتية، بل إن هذه المعاهدة كانت توصيفاً مجرد حبر على ورق، لأن السادات سلَّم لاحقاً الأمور بنسبة تقلق الكرملين أشد القلق إلى أميركا جيمي كارتر (الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة الراقد منذ فترة في العناية الإستشفائية) الذي حققت إدارته أول إختطاف للدولة العربية الأكبر "جمهورية مصر العربية" أنور السادات حيث أبرم مع رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن وتحت رعاية الرئيس كارتر معاهدة "كامب ديفيد" التي لم تنجب سلاماً ثابتاً مع إسرائيل وإنما عبدت الطريق بعد مثيلتها الأردنية _ الإسرائيلية لمحطات من التطبيع مجهولة مصير الثبات في حال لم تقرر إسرائيل نتنياهو طي صفحة التلاعب والأخذ بخطوة تكون مشابهة من حيث الإقدام لتلك التي إتخذها السادات، وهذا يكون بالإعلان عن قبول مبادرة السلام العربية... وكفى الإبراهيميين بدءاً بمعاهدة كامب ديفيد (26 مارس/آذار 1979) فالمعاهدة الشقيقة الأردنية _ الإسرائيلية فبدعة أوسلو بين الرئيس الفلسطيني (الراحل) تسميماً من جانب إسرائيل والرئيس الإسرائيلي الراحل الآخر إغتيالاً من بني قومه إسحق رابين، ثم ما تلا المعاهدتيْن غير المنزهتيْن عن التلاعب الإسرائيلي من خطوات تطبيعية إماراتية _ بحرينية_ عمانية _ سودانية_ مغربية – موريتانية... كفى الإبراهيميين جميعاً شرور هوس بعض المسؤولين الإسرائيليين وبالذات الأحدث فيهم بن غفير وأمثاله، بكل ما يؤذي الفلسطينيين ومعنويات أبناء الأمتيْن العربية والإسلامية في موضوع الحرم الثالث المسجد الأقصى.. وبالذات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي ذهب أبعد من أي طرف عربي في تصديق الإسرائيليين ومصادقتهم.
وبالعودة إلى مبتدى هذا المقال، فإن الرئيس ماكرون وجد خير فرصة لعلاج الندبة الأفريقية في الجبين الفرنسي قرر أن يجرب حذاقته بعدما لاحظ محاولة إختطاف الرئيس بايدن للورقة الأفريقية وإستضافته قمة أميركية _ أفريقية في البيت الأبيض، ثم تلاه الرئيس بوتين بإيفاد رُسله إلى ديار القارة السمراء وفي حقائبهم ما يغري إستقطاب رؤساء أفارقة أخلَّت بهم الدول الكبرى وتركت القارة في أشد الحاجة كما لبنان في هذه الأيام السود إلى إنتخاب من يملأ كرسي الرئاسة ويكون نظيف الكف لا أبناء ولا أصهرة ولا أخوة يرفرفون في فضاء رئاسة البلاد ويمعن أحدهم جنياً للغنائم والمكانة السياسية بفضل الحليف الذي أعطاه ما من الصعب أن يناله من دونه.
قد يحقق الرئيس ماكرون مبتغاه وبذلك يقول للفرنسيين إنه أعاد شأن جمهوريتهم إلى أفريقيا وأنهم بإنتخابهم له ولاية رئاسية ثانية كانوا على موعد بما هو أهم من تقليص مدة التقاعد الوظيفي. كما أن الرئيس بايدن قد يحقق هو الآخر إنتخابياً ولاية رئاسية ثانية على أساس أن ورقة السود في الولايات المتحدة ستكون لمصلحته معززة ما في الأصل سبق وبدأه بإختيار نائبته ثم وزير دفاع الدولة فتعيينات وإحياء مناسبات تذكارية لمَن هم من ذوي البشرة السوداء. لكن ما الذي في مخطط الرئيس بوتين من إهتمامه المباغت بالقارة السمراء وفي وقت دخلت حربه ضد أوكرانيا الأيام الأولى من السنة الثانية وليس في الأفق ما يخفف من وطأتها سوى تمنيات أطراف عربية وإسلامية بأن يضع نهاية لحربه خشية أن تختلط الحوابل بالنوابل على كثرة أنواعها وأطماعها، وهذا يوجب عليه التأمل في وثيقة التسوية الصينية (12 نقطة) وبالذات في أُولاها التي تشدد على "ضرورة التمسك بشكل فعال بسيادة جميع الأوطان وإستقلالها وسلامتها الإقليمية" وكأنما تريد الزعامة الصينية القول للرئيس الروسي ما خلاصته أنك إذا كنت ستستمر على ما فعلْتَ فالعالم ليس معك ونحن منه، وليست تايوان بالنسبة للصين العظيمة أقل أهمية من أوكرانيا بالنسبة لروسيا العظمى، ولكننا نتفادى شر الحروب ونسعى بالدبلوماسية وبالتصريحات النارية أحياناً إلى وأد أي محاولة تجعلنا نقترب من شفير المواجهات الحربية.
وبالعودة مرة أُخرى إلى المسألة الأفريقية ذات الإرتباط الوثيق بإستراتيجية أميركا كما روسيا كما فرنسا كما الصين وقبْلهما إسرائيل التي تمددت وإستحوذت على مواقع وصداقات ومشاريع في بعض دول القارة السمراء، ربما لأنها قارة الخيرات في زمن الجدب الدولي التي تلوح مظاهره في أكثر من دولة، يبقى الجيران العرب الأفارقة هم الأْولى بالإنصهار في واقع الحال الأفريقي، ومن هنا أهمية القمة الأفريقية التي إستضافتْها أديس أبابا يوم السبت 18 فبراير/شباط الماضي وبمشاركة 36 من رؤساء دول وحكومات الإتحاد الأفريقي. ولقد أضاع رئيس وزراء أثيوبيا أبي أحمد فرصة تاريخية كانت تسجَّل له لو أنه إغتنم إنعقاد هذه القمة وأعلن نهاية سعيدة تأخرت كثيراً لأزمة "سد النهضة" التي ضغط الرئيس عبدالفتاح السيسي الكثير على خيار المواجهة بالقوة لأن رئيس الحكومة الأثيوبية يحتفل مرة بعد أُخرى بتشغيل مرحلة جديدة من ملء السد وسط إنشغال بال مصري متزايد من حالة أزمة مائية بالغة الخطورة تعانيها مصر نتيجة أن تشغيل السد الأثيوبي سيكون على حساب نسبة مياه النيل الذي يروي مصر الإنسان والأرض.
ولو أن الرئيس الأثيوبي وقف معلناً مِن على منبر قمة 36 دولة أفريقية أن التعطيش أهم بكثير من علو شأن الزعامة التي تحققت له من تشغيل السد وعلى بعض حساب مصر والسودان، لكان بذلك جعل الموقف العربي _ الأفريقي أكثر صلابة.
خلاصة القول إن أفريقيا تلك الجوهرة السوداء، في ما هو آت من الزمن الدولي والإقليمي والتي تفتقد الرئيس (الراحل) معمَّر القذافي الوحيد بين القادة العرب الذي إستوعب طموحاتها وعمَّق العلاقة الإستراتيجية مع معظم دولها، ستأخذ مكاناً حيوياً في إنشغال البال خصوصاً أنها أرض المعادن والذهب والغابات والأنهر والنفط وتحتاج إلى إصطفاف دولي وعربي حولها بدل الإستهداف لأغراض سياسية عابرة. والله الهادي وبالذات لأولئك الذين في أشد الحاجة إلى الهداية من عرب ومسلمين أفارقة ومن دول كبرى أدرجت حديثاً أفريقيا في أجندة الأطماع وتوظيفها لغايات في النفوس الأمَّارة بالإستئثار بما فوق الأرض وما تحتها.
فؤاد مطر