الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الفساد المتنقل بين المحيط والخليج

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ السبت 4/2/2023

بات الحديث عن الفساد ونهب أموال الدولة والعبث بالقضاء وعلو شأن التنظيمات ذات الطابع الميليشياوي وإزدهار الشعبوية وعلو سقف المشاعر الطائفية وإنخفاض سقف المشاعر الوطنية، يتقدم على التخاطب الرصين وعلى الحديث حول أهمية التنمية وبناء الدولة المتطورة والتخطيط البعيد المدى وتقوية المؤسسة العسكرية. هذه ظاهرة تعيشها عدة دول عربية يتصدرها لبنان والعراق واليمن والسودان وعلى أهبة إنتساب سوريا إلى هذه الظاهرة.

قبل أن يأخذ الدور الإيراني الثوري مداه وتصبح أصابع اليد الإيرانية حاضرة في مفاصل القرار في الدول المشار إليها، كانت الأحوال في تلك الدول مستقرة نسبياً من دون أن يعني ذلك أن الأنظمة والحكومات التي إما وليدة إنقلابات عسكرية _ حزبية وإما وليدة عملية ديمقراطية شكلاً، غير منزهة عن الفساد ضمناً، ثم يأتي الدور الإيراني يؤسس واقعاً جديداً غير مألوف في دول العالم، وهو إنماء أحزاب سياسياً ومذهبياً وعسكرياً وبحيث تتحول إلى كيان داخل الدولة الرسمية قادر على التفعيل لمصلحته وعلى التعطيل إذا أوجبت ذلك سياسة المرجعية التي أنشأت ومولت ودربت ورسمت قيامه بالدور التعطيلي. ولنا في وقائع كثيرة حدثت في الدول الثلاث ما يعطي فكرة عما نشير إليه. ففي لبنان تقاسم "حزب الله" وحليفه "حركة أمل" وبعد إستيلاد حليف ذو شأن في الطائفة المارونية متمثلة بالجنرال ميشال عون، الحكم عملياً مع الحليف المسيحي. وفي العراق تقاسمت التنظيمات التي أنشأتها إيران مفاصل السلطة وسياستها. وأما في اليمن فكان هناك أسلوب جديد وهو الإستيلاء بالكامل على الشرعية عاصمة ومقرات وتكريساً لظاهرة اليمن المزدوج، يمن الشرعية السيادية ويمن الأمر الواقع الثوري الحوثي الإيراني الساعد والمساعدة.

هذا الذي تحقق على مدى بضع سنوات لإيران بدأ يتحلل بالتدرج وتحاول الدويلات التي تنتمي فكراً إلى جانب الولاء الذي لا يحتمل تشاوراً تثبيت أعمدة بنيانها الذي تصدَّع بعض الشيء في ضوء الأحداث الإحتجاجية المتكاثرة في إيران والتي شكل إحراق بعض المنشآت وصور مقامات سياسية وثورية رسالة إلى كبار القوم في النظام الإيراني بأن السلامة هي في إعادة النظر، وعدم الإستهانة بالذين يحتجون سواء الذين يواصلون التظاهر أو الذين من أقارب أهل النظام، فضلاً عن بعض الذين يرون أن السلامة هي في الإصغاء إلى الهدير الإحتجاجي خشية أن يصيب النظام الثوري ما أصاب النظام الشاهاني. وهذا الطيف من الإيرانيين لا بد يتساءل: ما دام النظام الحالي قام بعد إحتجاجات شعبية حافلة بالممارسات السافاكية وليس بفعل عملية إنتخابية ديمقراطية، فلماذا يواجِه بالعنف وعمليات الإعدام أطيافاً من المحتجين ويرميهم بالعمالة على نحو ما كان نظام الشاه يرمي المحتجين بالعمالة الشيوعية السوفياتية.

في ظل حالة التصدع الذي أصاب مهابة النظام في إيران وإن كان رموز الحكم على درجة من التماسك، تشهد الدويلات تطورات تتصدى لها بدل التفاعل معها وبما يخفف من تساؤلات البعض حول دور هذه الدويلة أو تلك. ففي لبنان وعلى سبيل المثال لا الحصر يتصدى "حزب الله" وبعض من يحالفه لمهمة قضائية من شأن السير فيها إلى نهاية الطريق التوصل إلى السر المتعلق ﺒ "أم الجرائم" في حق لبنان وهي تفجير المرفأ الذي هو العصب التجاري للوطن وما نشأ عن التفجير من ضحايا ودمار شمل تصدُّع المئات من المباني. واللافت أن التصدي للمهمة القضائية حالة ملتبسة كما أن حملته الإعلامية على طارق البيطار قاضي (إبن بلاد الأرز) بهدف التشويه وإغلاق الملف عكست إنطباعاً بأنه ضد القضاء، وهذه  في أي حال إحدى رؤى الثوريين عموماً الذين لا يحبذون القضاء والعدالة بالمفهوم المتعارف عليه ويؤثرون القضاء الثوري على ذلك، وهذا القضاء لا يتطلب قضاة ولا جلسات ولا محامين وإنما قرار إدانة وتنفيذ فوري بعد محاكمة ثورية شكلية على نحو ما فعله نظام الرئيس صدَّام حسين مع الصحافي البريطاني الإيراني الأصل فرزاد بازوفت الذي أعدموه لأنه إلتقط صورة مصنع عسكري من دون التصريح له بذلك، وكان حرياً بالرئيس صدَّام التجاوب مع مناشدة رئيسة الحكومة البريطانية (الراحلة) مارغريت تاتشر عدم إعدام الصحافي، ولكنه القضاء الثوري العاجل والمتعجل الذي لا يتحمل التبصر، وعلى نحو صنوه الإيراني الذي لم يتجاوب مع مناشدة رئيس الحكومة البريطانية الحالي ريشي سوناك عدم إعدام علي رضا أكبري. في الحالتيْن الصدامية والخامنئية نرى الإستعلاء يتقدم على التبصر. كذلك حال تعامُل "حزب الله" مع قاضي إبن بلاد الأرز طارق البيطار وإلى حد تصويره بأنه هو المتهم الذي يستحق الإدانة والعقاب من جانب القضاء الثوري.

في العراق وكما في لبنان هنالك طيف المخاوف يلقي بثقله على القضاء وعلى خلفية "سرقة القرن" توأم "أم الجرائم". في الأولى سرقة مال الشعب وبالمليارات وفي الثانية تتجسد الجرائم على أنواعها حجراً وبشراً ومالاً وسمعة وخراباً.

عندما يحقق الحكم العراقي متمثلاً بركنه الفاعل رئيس الحكومة محمد شياع السوداني خطوة بالغة بالغة الأهمية عنوانها في كشف "سرقة القرن" ويتولى القاضي ضياء جعفر مهمة عدلية كفيلة بكشف المستور من الحقائق والأشخاص والمسلوب من المليارات، فإن عيون الذين شاركوا بتلك السرقة سارعت إلى الإشخاص عليه وفي نواياهم ما يقدح الشرر، وبحيث ينال منهم "إبن بلاد الرافدين" القاضي ضياء جعفر ما سبق أن أصاب "إبن بلاد الأرز" طارق البيطار من قذائف كلامية تحمل في ثناياها مخاوف مما قد ينتهي أعظم.

 ما حدث في لبنان للقضاء يترك إنطباعاً بأن تصنيفاً جديداً لعبارة "العدل أساس المُلْك" بمعنى القضاء المنزه عن الأهواء والتدخل وإخضاعه لذوي الحالات الميليشياوية حاضراً المافيوية ماضياً، هو ما قد يسود في حال لم تسلك الأنظمة الصراطات المستقيمة وتقديس الأوطان وبما يرضي العباد بعد الله. كما أن الذي حدث في العراق بعد لبنان يوحي بأن الظاهرة مرشحة لأن تكون جرثومة تتنقل كما "الكورونا" من دولة إلى دولة. وعند التأمل في ما يحدث من إكتشافات فسادية وعلى مستويات كثيرة من بينها كبار رفيعي علو المقام في الجزائر والسودان وموريتانيا وتونس، يتأكد لنا كم أن الحاجة ضرورية إلى ما هو أشد تأثيراً من العلاج التقليدي.

ربما يهتدي معطلو إبحار سفينة القضاء العادل تواصل في عهدة القاضييْن إبن بلاد الأرز طارق البيطار وإبن بلاد الرافديْن ضياء جعفر وسائر قضاة عرب يحترمون أنفسهم، إلى رسوها على شاطئ العدالة، إذا هم تأملوا في الحكمة النبوية "عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة" وفي الحكمة البلاغية للإمام علي عليه السلام "يوم المظلوم على الظالم أشد وطأة من يوم الظالم على المظلوم" وفي خير الكلام الذي طالما أخذ حيزاً في ثقافتنا وحوته سطور في "سِفْر الحكمة" وهو "سر متفاقم في كل موضع، الدم والقتل والسرقة والمكر والفساد والخيانة والفتنة والحنث وقلق الأبرار" إلى جانب القول الإنجيلي الطيب "من أحبَّ الذهب لا يُزكّى ومَن إتبع الفساد يشبع منه".

وعندما لا يعود الفاسدون هم الذين يديرون شؤون الحكم يستقر الوطن ويطمئن المواطن. والله المعين.

   

فؤاد مطر