الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

السلام قضية.. والسلامة مكيدة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 15/2/2023

بعدما عاد بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة في إسرائيل إفترض كثيرون من الذين سجلوا خطوة نوعية على طريق السلام الذي لا تتيح له إسرائيل حكومة إثر أُخرى فرصة التحقق، أن يطوي الرجل صفحة المعادي للتسوية الموضوعية وتصدر من الجانب الإسرائيلي ما يبعث في النفس العربية نسبة من الشعور بأن إسرائيل الاحتلال والعدوان في الطريق نحو إسرائيل الراضية بكيان لا يخشاه العرب من المحيط إلى الخليج ما دام سيأخذ بعد طول تردد لا مبرر له بأعقل صيغة تسوية للصراع العربي _ الإسرائيلي متمثلاً ﺒ "مبادرة السلام العربية" التي أهم مدلولاتها من حيث مضمونها والطَرَف الذي طرحها ونال موافقة عربية على مستوى القمة عليها، إن تلك الموافقة في القمة العربية التي إستضافها رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمة الله عليه) في بيروت كانت بمثابة تفويض لصاحب المبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمة الله عليه) لكي يواصل السعي من أجْل وضْع المبادرة موضع التنفيذ. وللتذكير بالنسبة إلى مسألة الإستضافة نشير إلى أن دور إنعقاد تلك القمة كان لدولة الإمارات، لكن حنكة الشيخ زايد وحكمته إلتقتا حول أن يتم تجيير القمة إلى "لبنان رفيق الحريري" بحيث تعزز شأنه السياسي والمعيشي واكتمال عمرانه زمنذاك، فضلاً عن أن إطلاق المبادرة من بيروت رسالة إلى كثيرين يهمهم الأمر بأن لبنان لن يكون أحد أذرع الثورة الإيرانية من خلال "حزب الله" الذي كان زمنذاك في بدايات النمو عسكرياً وتعبئته مذهبية.

بدل أن تتلقف مراكز القرار في الدول الكبرى وبالذات كرملين روسيا التي كانت تاريخياً الدولة الأُولى التي إعترفت بإسرائيل دولة من دول الأمم المتحدة، والبيت الأبيض الذي إبتهج ساكنه ترومان كما لم يبتهج اليهود أنفسهم بالدولة الجديدة مسجلاً أن أميركا ثاني دول الإعتراف، و 10 داوننغ ستريت الرمز لوعد بلفور الذي كان تأشيرة الولادة والإعتراف.. إن مراكز القرار تلك التي كان مأمولاً منها تلقُّف المبادرة وتسويقها بحيث تشق الطريق إلى القبول بمضمونها كأمر واقع، غضت الطرْف وتركت لعناصر في دواوينها ذوي ثقافة سياسية يهودية تضع العراقيل أمام أي موقف يؤدي إلى إعتماد المبادرة العربية للسلام حلاً ولا أفضل منه للصراع العربي _ الإسرائيلي.

ومن جانبها وظفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الموقف الدولي وتحديداً المثلث الأميركي _ الروسي _ البريطاني أسوأ توظيف وفي أشكال من العدوان وتوسيع رقعة الاحتلال والزج بمئات المعترضين من الفلسطينيين في السجون، ووصلت ظاهرة "الأسرى المعمرين" إلى حد أن أحدهم أمضى أربعة عقود أسيراً.. هذا فضلاً عن الألوف الذين بينهم نساء سجينات وأسرى منذ سنوات، ويتطور سوء المعاملة لهم إلى حد حرمانهم خبز فرن يستعملونه وأطعمة يطهونها (في سجون الاحتلال 14700 أسير فلسطيني بينهم 29 امرأة و150 طفلاً وقاصراً).

من الرئيس بوش الأب إلى الرئيس بايدن لا جدية من الجانب الأميركي في موضوع مبادرة السلام العربية. تصريحات بين الحين والآخر بعضها يتسم بالغرابة ومنها على سبيل المثال لا الحصر قول الرئيس بوش الإبن الذي أكمل مهمة بدأها والده وقضت بالحرب على العراق وإنهاء دوره كرقم في معادلات إقليمية كثيرة "إن نهاية نظام صدَّام حسين ستوفر فرصة لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية...".

بدل أن يسجل نتنياهو موقفاً إيجابياً هو بحاجة إلى إتخاذه كونه ربما يمحو بعض الشيء الملاحقة القضائية له والتي وصلت في ما قبل ترؤسه إلى حد أن عقوبات شديدة القساوة بسمعته يمكن صدورها، فإنه إنتهز فرصة زيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن ليتصرف كما لو أنه ملاك شكلاً بمخالب ضمناً. وهذا تمثَّل بقوله ومن قبْل أن يحط وزير الخارجية الأميركية رحاله في تل أبيب "إن السلام مع الفلسطينيين يتحقق بعد السلام الشامل مع الدول العربية...". وفي هذا الإشتراط إستند إلى مكسبيْن لم يخطرا في البال العربي _ الإسلامي حدثا في فترة زمنية متقاربة حيث أن رئيس تشاد محمد ديبي سار على خطى والده ادريس الذي زار إسرائيل قبل أربع سنوات (2018) وجاء مباغتاً أمته الإسلامية إلى تل أبيب يلقى من نتنياهو ترحيباً ما بعده ترحيب ما دام يزيد في شق الموقف العربي _ الإسلامي _الأفريقي من الصراع مع إسرائيل. كان ذلك يوم الأربعاء أول فبراير/شباط 2023. وفي اليوم نفسه (الخميس 2 فبراير) كان الرئيس السوداني الجنرال عبدالفتاح البرهان الذي لا يحسم أمر التسوية النهائية المدنية للحكم في السودان وفي علم الغيب متى تحقيق ذلك، يستقبل في قصر الحكم في الخرطوم، ومن دون توقعات من جانب رموز السلطة العسكرية التي هي على أبواب دخولها العام الثالث ولا حسْم في الأفق، وزير الخارجية الإسرائيلية وتستغرق الزيارة الأولى لهذا الحديث التوزير إيلي كوهين إلى السودان بضع ساعات وكأنما جاء ليبلِّغ ويتبلغ، وتقول الخارجية السودانية إنه "تم الاتفاق خلال هذه الزيارة على المضي قُدماً في سبيل تطبيع العلاقات بين البلديْن". ثم تزيد السلطة البرهانية الحدث أهمية والرد على الزيارة بأهم منها وذلك بإرسال وفد وزاري جنرالي إلى تل أبيب التي أحرجت الخرطوم بإستباق الإعلان عنها. هنا يتساءل المرء ما الذي إستفاده السودان العسكري في شخص الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان منذ أن فتح بوابة التطبيع مع إسرائيل عام 2021 وهل حظيت هذه الخطوة بالرضى المزدوج: الرضى العسكري والرضى المدني. ونقول ذلك على أساس أن القوى المدنية في معظمها إعترضت وبعضها إستنكر. كما أنه كان لافتاً التبرؤ الضمني من جانب الرقم الصعب في المجلس العسكري محمد حمدان دقلو(حميدتي) وقوله بمفردات النفي القاطع أن لا علاقة له بل لا عِلْم له بزيارة الوزير الإسرائيلي. هل هذا يعني أن السيناريو يقضي بأن البرهان يستقبل وحميدتي يتبرأ، أم أن حميدتي يروم بموقفه هذا إستقطاب الطيف المدني المتحفظ على التطبيع إلى جانبه لأمر يخطط له وطبيعته في عِلْم الغيب. في كلا الأحوال نتذكر بكثير من الوجدانية سودان اللاءات الثلاث في "أمم القمم العربية" في سبتمبر 1967.

المهم أن وزير الخارجية الأميركية لم يُضِف ما يدعو إلى التوقع بأن أميركا بايدن ستكون بالنسبة إلى الصراع العربي _ الإسرائيلي أفضل من إدارات مضت وكانت تتعامل مع الصراع العربي _ الإسرائيلي بأنها دائماً تتفهم إسرائيل وتغفر خطاياها ولا تتفهم رؤى الأمتين العربية والإسلامية، إلا عند نزوع البعض إلى التطبيع بهدف تحفيز إسرائيل للسير خطوة مقابل الخطوات. ولن تتحقق هذه الخطوة ما دام الموقف الأميركي ومعه البريطاني وعلى مقربة منهما الموقف الروسي وسائر المواقف المتثائبة لا تقرر إستصدار قرار من الأمم المتحدة يتبنى مبادرة السلام العربية مع تحديد سقوف زمنية لتحقيق ذلك.

قبل زيارة إسرائيل ثم لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقر سلطته المتصارَع ضمناً عليها من جانب صقور وحمائم ترفرف في فضاء رام الله على أمل توحيد الصف الفلسطيني المتشرذم وتلك أعمق الثقوب في جدار القضية، كان رئيس الدبلوماسية الأميركية سمع في القاهرة من الرئيس عبدالفتاح السيسي حول الصراع العربي _ الإسرائيلي وتعامُل إسرائيل مع أهل فلسطين، ما من شأنه تنبيه الإدارة الأميركية إلى أن عدم تفعيل كلامها حول صيغة حل الدولتيْن من شأنه حدوث ما هو أشد خطورة من تلك الإنتفاضة المحتملة التي ألمح إليها بكثير الوضوح رئيس المخابرات المركزية الأميركية بعدما كان وقف في ضوء لقاءات له مع صانعي القرارات في العالم العربي أبرزهم الرئيس السيسي الذي إستقبل زيارة بلينكن بقمة في القاهرة مع الملك عبدالله الثاني والرئيس عباس، على مخاطر الوضع في الأراضي المحتلة، وكذلك في ضوء ما قاله الملك عبدالله الثاني في البيت الأبيض (يوم الجمعة 3 فبراير 2023) ثم خلال لقاءات أعضاء من الكونغرس ومن منطلق الحرص على العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة للرئيس بايدن عندما إلتقى به.

خلاصة القول إن الإدارة ماضياً ليس بعيداً وحاضراً كثير الوضوح، تتعامل مع الصراع العربي - الفلسطيني بما يعطي العرب وإخوانهم الفلسطينيين من طرف لسان العم سام حلاوة لا أكثر، ولأنها كذلك فإن الدول الأُخرى أصحاب القرار الدولي الفاشل تتحمل وزر الاحتلال وبالذات بريطانيا وفرنسا بنسبة صريحة وروسيا والصين بنسبة خجولة. وما دام التعامل سيبقى على هذا النحو فإن نتنياهو المتباهي بالتطبيع يرى أن حل الدولتيْن يأتي بعد كامل التطبيع مع الدول العربية.. أي بإختصار إنه يريد السلامة فيما الدول العربية متمسكة بالمبادرة التي جوهرها سلام كامل على الأرض العربية من لبنان إلى نواكشوط بعد الرباط مروراً بسائر الدول العربية. عدا ذلك تكون السلامة لإسرائيل مجرد مكيدة صهيونية وسلعة يشتري التاجر اليهودي الشاطر بموجبها بضاعة السلام الكامل مقابل الثمن الزهيد الذي هو إدارة حكم ذاتي للفلسطينيين كما الحال الآن إنما شرط أن يتوقف نضالهم وعملياتهم الصاروخية والدهسية والإستشهادية والإنتحارية وكذلك حلمهم بالوطن الذي إحتله عملياً الغرب وآخرون معه ما داموا إرتضوا إسرائيل دولة على أرض شعب، وكل ذلك بموجب وعد صاغه البريطاني البلفوري في زمن كانت سيادة الإستعمار هي القائمة.

بدعة السلامة لإسرائيل بموجب التطبيع العربي هي محاولة نسْف مبرمَج لمبادرة السلام العربية التي هي الصيغة المتوازنة لعلاج العقدة المستعصية. وعندما لا يؤخذ بها وتقرأ إسرائيل نتنياهو كما الذي قبله وربما الذين بعده الأمر على هذا النحو، فإن تجربة التطبيع ليست فقط لن تتواصل الحدوث، وإنما قد يحدث فجأة ما يفيد بأن التجربة ستتوقف. بل لا يُستبعد كورقة ضغط ثابت على إسرائيل بعد تنبيه مستمر للغرب الأميركي والأوروبي وللشرق الروسي والصيني، تعليق خطوات تطبيعية تمت وعلى نحو تعليق العلاقات الدبلوماسية... وربما قطْعها عند الضرورة.

وهذا يبقى إلى أن يأتي الحق العربي ويزهق الباطل الإسرائيلي. ومَن يصبر يظفر.

فؤاد مطر